“لجنة المال” ستنجز نقاش الموازنة قبل نهاية المهلة الدستورية
حتى اليوم لا يزال مشروع موازنة 2024 غير واضح المسار والمصير، في ظل التناحر “الشعبوي” المستمر بين الحكومة والمجلس النيابي. إذ ثمة مقترحات لمواد جديدة يُطلب إضافتها إلى مشروع الموازنة، ومطالب بتعديل وتعليق مواد أخرى، إضافة إلى الحديث عن توجه الحكومة وفق صلاحياتها الدستورية، إلى إصدار الموازنة بموجب مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، إذا لم يتم إقرارها بموجب قانون في مجلس النواب، علما أن النائب ابراهيم كنعان أكد تصميم لجنة المال والموازنة التي يرأسها على الانتهاء من مناقشتها قبل نهاية المهلة الدستورية في آخر كانون الثاني الجاري، متوقعا “في حال التزم النواب والوزراء المعنيون مواعيد الجلسات المحددة ان ننتهي في الاسبوع الاول من كانون الثاني 2024”.
وقال إن “التعديلات التي عملنا عليها شملت 133 مادة قانونية غالبيتها الساحقة تتعلق بالضرائب والرسوم والغرامات المستجدة، أحالتها الحكومة في موازنة واحدة، والبتّ بها كما بالموازنة ككل، مسؤولية نيابية جماعية لا يجوز التخلف عن تحمّلها، حتى لا يتحمل المواطن نتائجها الكارثية إذا ما صدرت بمرسوم حكومي لعدم قيام المجلس بواجباته الدستورية”.
أمام هذه المستجدات، يُتوقع ان يدعو رئيس المجلس #نبيه بري الهيئة العامة الى جلسة تشريعية تعقد قبل منتصف كانون الثاني لاقرار الموازنة العامة، للحؤول دون اصدارها بمرسوم حكومي بعد أن تنهي لجنة المال دراسة جميع مندرجاتها وبنودها.
بيد أن الموازنة الجديدة وفق مطلعين، لن تختلف كثيرا عن سابقاتها، على رغم سعي لجنة المال الى تصويب احكامها الضريبية الجديدة، بغية تخفيف الاعباء المالية وسائر مفاعيل الاحكام التي بدت لأركان المال والأعمال كارثية، كما وردت في المشروع الذي أعدته الحكومة.
حال البلاد والوضع المتردي لليرة والاقتصاد، وغياب المعالجات الجدية، وفقدان وحدة القرار والحكم في الدولة، تشي بأن الموازنة الجديدة لعام 2024 ستكون حتماً شبيهة بالموازنات التي ستُقر مستقبلاً، في حال استمرت سياسات الترقيع وشراء الوقت بمزيد من الضرائب والرسوم والإتكال على المعونات والقروض الدولية.
كيف لموازنة عامة أن تترجم عمليا بحكم وظيفتها ودورها وعلة وجودها، وهو ما نصت عليه الدساتير والقوانين المحلية والدولية، وأن تنجح في تصويب أهداف وأوضاع المالية العامة والتوازن المالي للدولة، طالما ان لا رؤية عامة ترافقها، أو خططا إستراتيجية ترعاها؟ أي موازنة مصيرها الفشل ومزيد من العجز، اذا لم يكن في مقدورها الذهاب بالإقتصاد والنقد عبر خريطة طريق علمية إلى سلوك دروب الإصلاح والتطوير المستدام، أو الدفع باتجاه بناء نمو سنوي لا يتكئ على عكاز السياحة ومواسمها فحسب، بل على انتظام العائدات والواردات بما لا يؤدي إلى كسر ظهر القطاعات الاقتصادية أو ما بقي منها شغّالا، وبما يكفل إستجابة المواطن المنهك لتحمّل الضرائب والرسوم الجديدة.
تؤكد المحامية الدكتورة جوديت التيني لـ”النهار” أن “اصلاح الموازنة العامة ضروري من حيث الشكل لجهة بنيتها وهيكليتها وتبويبها، ومن حيث المضمون لجهة فرضياتها وجوهر أحكامها”، لافتة الى أن “ثمة 3 ركائز أساسية لذلك. الركيزة الاولى تتعلق بموجب بناء السياسات العامة، إذ تترجم الموازنة السياسات العامة للدولة، ويتم توزيع الإنفاق بحسب هذه السياسات العامة.
ولا بد من تقييم نتائج السياسات العامة المعتمدة، ومدى تحقّق الفعالية من كل وجه من الإنفاق العام. وتقاس فعالية الموازنة من خلال قدرتها على تنفيذ السياسات العامة التي تحتويها، لذا لا بد من ان تتوخى السلطة الإجرائية الدقة لدى إعدادها الموازنة، لأنه من خلالها تقرر السياسات العامة والاهداف والخطط، على ان تنفذها لاحقا. وكم ان هذه السياسات اليوم بعيدة كل البعد عن تطوير القطاعات الانتاجية وعن الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والإنمائية والثقافية، ففي الازمات لا بد من العمل على تحفيز القطاعات الإنتاجية وليس العكس. وفي التجربة اللبنانية، اعتمدت السلطة الإجرائية سياسات خاطئة ومبذّرة اساءت الى المالية العامة وحقوق المواطنين، ولم تحاسبها عليها يوما السلطة التشريعية”. وتشير الى سياسة التوظيف التي اعتُمدت من سنة 2017 لغاية 2019 كمثال على ذلك، “إذ أدت الى ازدياد أعداد الموظفين في القطاع العام 25 الفا وبات عددهم اليوم بحدود 320 ألف موظف، أي انه يشكل أكثر من 30% من اليد العاملة وهذا امر سيىء للغاية. حتى ان الكثير من السياسات العامة المعتمدة لم تدخل اصلا في الموازنة وفي ارقامها، بما يسيء جدا الى المالية العامة كسياسة الدعم المبذرة التي دعمت فيها الدولة المواد على أنواعها والكهرباء على حساب أموال المودعين وتبيّن انها كانت غير نافعة سوى للمهربين وبعض المستفيدين”.
الركيزة الثانية التي تشير اليها التيني تتعلق بصدقية فرضيات الموازنة، إذ برأيها “لا بد للموازنة من ان تعكس صدقية الواقع المالي للدولة وحقيقة الإيرادات والنفقات. على سبيل المثال، تبين ان ارقام إيرادات مشروعي موازنة 2023 و2024، لا تعكس حقيقة الواقع المالي، لأنها لا تتناسب مع ارقام الميزان التجاري، في احتساب الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، في ظل التهرّب الجمركي والضريبي والتهريب. فوضوح الأسس التي تبنى عليها ارقام الموازنة امر جوهري، ومن هذه الأسس المؤشرات الماكرو اقتصادية كمعدل النمو الاقتصادي الحقيقي، ومعدل النمو الاسمي، ونسبة التضخم، والناتج المحلي القائم، واجمالي النفقات، واجمالي إيرادات الموازنة والميزان التجاري، فتبنى على هذه الأسس جميع الفرضيات في اعداد الموازنة، كالضرائب والرسوم والاعفاءات، وتحديد سقوف للمبالغ والتعويضات التي يتقاضاها موظفو القطاع العام. من هنا أهمية وجود مراجع علمية ودقيقة، كالإحصاءات ولجنة مؤشر الغلاء، لدرس تطور الاسعار واسباب ارتفاعها، ورصد الغلاء وتقلبات الأسعار، ودرس الارقام في ادارة الاحصاء المركزي ودرس سياسة الاجور”.
أما الركيزة الثالثة لاصلاح الموازنة العامة، فتتعلق بترجمة “الرؤية والتخطيط” التي تبدأ من هيكلية الموازنة او تبويبها، إذ “لا بد من اعتماد قالب جديد للموازنة العامة في لبنان ينقلها من قالبها التقليدي وهو على شكل موازنة الاعتمادات والبنود، ولو انها تتضمن بعض قوانين البرامج الممتدة على بضع سنوات مقبلة وأغلبها له علاقة بالبنى التحتيّة. وللخروج من القالب التقليدي الى القالب الحديث، لا بد من العمل على تطوير التقنيّات المعتمدة في مرحلة اعداد الموازنة. استحداث موازنة برامج واداء، هو المطلوب تحقيقه، وهي لا تقوم فقط على تخصيص الموارد وتوزيعها على بنود الانفاق، انما تتعدى ذلك إلى التفكير في النتائج وقياسها ثم البناء عليها. ففي موازنة الاعتمادات والبنود، تصنف النفقات العامة تصنيفا إدارياً، من خلال توزيع النفقات على الوزارات وسائر الإدارات العامة، على شكل اعتمادات أو مخصصات سنوية، ثم يجري تصنيف هذه المبالغ السنوية تصنيفا نوعيا بحسب الغرض من النفقة. ولكن يستدعي تطور النظرة الى الموازنة، ودورها الاقتصادي والاجتماعي وعدم اقتصارها على الطابع المالي البحت، إحداث تغيير جذري في محتويات الموازنة وطريقة تبويبها وجعله وظائف ومشاريع بدلا من بنود، واستحداث مؤشرات اداء ومخططات وتقارير اداء سنوية يمكن الرجوع اليها لتقييم تنفيذ الموازنة، وتاليا لا بد من تعديل النظام المحاسبي العام في لبنان لتكريس هذا التبويب وهذه الأفكار”.
في كل دول العالم ترتبط اهداف الموازنات العامة بالظرف الاقتصادي للبلاد، ويشدد المحلل الاقتصادي نسيب غبريل على ان تأخذ في الاعتبار مثلا وضع التضخم فتركز على خفض العجز من خلال تقليص النفقات وزيادة الايرادات، اضافة الى مقاربتها مع السياسة النقدية التي تعتمدها المصارف المركزية التي عادة ما تكون مستقلة. كما تهدف الموازنات الى دعم النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل، او المحافظة على نِسب بطالة منخفضة عبر زيادة نفقات الدولة الاستثمارية. أما بالنسبة الى لبنان، فيعتبر غبريل ان الموازنة العامة وتحديدا موازنة 2024 هدفها الرئيسي زيادة إيرادات الخزينة من اجل تغطية النفقات العامة المرتبطة بزيادة أجور موظفي القطاع العام. لذا، يرى أنها تضمنت “جبلا” من الضرائب الجديدة وزيادة في الرسوم الموجودة أصلا، خصوصا أن مصرف لبنان أعلن عدم استمراره في تمويل عجز الموازنة وعدم المسّ باحتياط العملات الأجنبية لتمويل حاجات الدولة. لكن هذه الزيادات لا يراها غبريل “مناسبة حاليا، في ظل عدم تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والنقدية، علما أن الموازنات العامة توضع في اطار معين مكون من 3 عناصر: توقعات الحركة الاقتصادية، ونسبة التضخم، وحجم الاقتصاد. وهذه العناصر لم نجدها في الـ 1200 صفحة لموازنة 2024، ولا في الـ 45 صفحة “فذلكة” الموازنة، والأكثر غرابة ان الموازنة لم تتضمن سعر الصرف الذي احتُسبت على أساسه إيرادات الخزينة”.
وإذ سأل غبريل “على أي سيناريو نمو او انكماش اقتصادي وُضعت هذه الموازنة، خصوصا ان الايرادات يجب ان تُحتسب استنادا الى حجم النمو الاقتصادي”، لفت الى ان “الموازنة وضعت وقدمت في آب الماضي اي قبل احداث السابع من أكتوبر، وبعد التاريخ المذكور حدثت تغيرات عدة، لذا كان ينبغي على الحكومة سحبها من المجلس النيابي وإعادة النظر بها وفقا لتوصيات وملاحظات لجنة المال والموازنة”.
وشدد على “أهمية مناقشة هذه الموازنة في المجلس النيابي، خصوصا أن بعض مَن اعتبروا تقديم هذه الموازنة بالمهلة الدستورية لأول مرة منذ 20 عاما انجازا، يسوّقون لتمرير الموازنة بمرسوم حكومي”.