تمايز العطاءات بين الاداريين والعسكريين والمتقاعدين أشعل السجال والشارع
يقع لبنان حاليا بين سلسلتين أرحمهما قادرة على إعادة عقارب الاستقرار النسبي المُرسى منذ شهور إلى الوراء بقوة. الأولى سلسلة لا تتوقف ولن، من الأزمات السياسية والأمنية والدستورية، بعضها خارج عن الإرادة اللبنانية ومفروض، وبعضها الآخر “نكد داخلي” مستدام.
أما الثانية فسلسلة زيادات جديدة على الرواتب “من دون رتب”، تزمع الدولة إعطاءها لموظفي الإدارة العامة بعدما استطاع نقابيوهم فرض شروطهم المحقّة في غالبيتها، عبر تعطيل الخدمات العامة وشلّها في إدارات الدولة، والتوقف عن جباية الضرائب والرسوم لأشهر عدة.
لكن رضوخ الحكومة لمطالب موظفي الإدارة العامة وشروطهم إستثار المتقاعدين العسكريين والمدنيين على السواء، الذين طالبوا مراراً بتحسين أوضاعهم ورفع العوز والفقر عن “آخرتهم”، بَيد أن الأجوبة الحكومية كانت تتلطى دوما خلف سوء الأوضاع الاقتصادية وفقدان السيولة، و”مش شايفين شو صاير؟”.
من هنا بدأ المتقاعدون حراكا إعلاميا وتفاوضيا وعلى الأرض عير الحشد الكبير ميدانيا الذي حصل أمام السرايا الحكومية الأسبوع الماضي، وفرض منع عقد جلسة لمجلس الوزراء كان على جدول أعمالها إصدار مرسوم زيادات على رواتب موظفي الإدارة العامة، يتضمن بدل إنتاجية وحوافز، فيما المتقاعدون لن يحصلوا إلا على زيادة راتبين فقط، والحجة “ما في مصاري”.
تتداخل في ملف الزيادات على رواتب وأجور القطاع العام تعقيدات عدة، منها أنها تأتي في ظروف إقتصادية لا تُحسد عليها البلاد، ومنها فقدان السيولة الكافية لتسديد “المعاش” بالدولار، ونصائح مصرف لبنان للحكومة بعدم فتح الحنفية بما لا يمكن بعدها ضبط السوق وسعر الصرف والسيطرة على التضخم.
لكن تعقيدات الإمكانات الحكومية تقابلها تعقيدات قانونية ودستورية وإنسانية واجتماعية تعتري حياة من أفنوا شبابهم وأعمارهم في خدمة الدولة وإبقائها على قيد الحياة، وهم بغالبيتهم الساحقة من عديد الجيش اللبناني والقوى الأمنية الأخرى وموظفي الادارة العامة الذين عايشوا الحرب الأهلية معظم خدمتهم وقدموا تضحيات جمة، لا يليق بدولة تحترم نفسها تجاهلها. ووفق مصادر العسكريين، المطلوب ممكن تحقيقه بعدالة التوزيع واعتماد المساواة، ليس وفق “الغاية تبرر الوسيلة” بل بإعادة الإعتبار الى القانون الذي يحمي شرائح المتقاعدين في الأسلاك العسكرية والمدنية على حدٍ سواء، ويمنحهم 85% من رواتب نظرائهم في الوظيفة والرتبة والخدمة الفعلية.
أمس، أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال #نجيب ميقاتي عزم الحكومة على إعطاء الموظفين كل الحوافز المالية، “بما يتواءم مع واقع المالية العامة، وضرورة المحافظة على الحد الأدنى من الاستقرار المالي والنقدي”.
وأكد أنه “كان المبادر، وقبل أي مطالبة، إلى طرح موضوع إعطاء الحوافز المالية للموظفين والعاملين في القطاع العام، وهذا الموضوع لا تراجع عنه، ونحن ملتزمون سريان مفعول تلك الحوافز بمفعول رجعي اعتباراً من الأول من شهر كانون الأول الحالي. ونحن في صدد استكمال البحث في طلب المتقاعدين ولإجراء مزيد من المشاورات بشأن الزيادة التي تطاولهم”.
ولفت ميقاتي إلى انه “في إطار قيام الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية لإعادة الانتظام إلى مختلف المرافق العامة، وفي سبيل تحسين الأداء وتعزيز كفاية العمل وحضّ الموظفين على المواظبة على الحضور إلى مراكز عملهم وتأدية مهامهم والقيام بواجباتهم، وبُغية جمع المعلومات الضرورية حول ضبط الحضور والانصراف، ولتنفيذ نظام يعتمد على وجود بصمة إلكترونية، طُلب من كل الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات والمجالس والهيئات إجراء مسح شامل بشأن حاجاتها لآلات بصم إلكترونية، على أن يتم إيداعه جانب مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية المكلف مُتابعة تنفيذ مضمون هذا التعميم”.
وكان مجلس الوزراء عقد أول من أمس جلسة حضر جزءا منها المدير التنفيذي في مصرف لبنان الدكتور مكرم بو نصار الذي عرض كلفة الزيادات المقترحة وتأثيرها الاقتصادي.
ووفق معلومات “النهار” فقد عرض بو نصار الوضع النقدي والامكانات المتاحة للزيادات، وتمنى باسم مصرف لبنان “ألا يتخطى سقف الزيادات الـ 1800 مليار ليرة شهريا (20 مليون دولار)، على اعتبار أن المحافظة على الاستقرار النقدي والسيطرة على التضخم يبقى الاولوية لمصرف لبنان والحكومة”.
حاليا، يتقاضى المتقاعد 6 رواتب فقط، أما العسكري في الخدمة الفعلية فيتقاضى 6 رواتب، تضاف اليها 100 دولار من جهات دولية مانحة، في حين يحصل الموظف الاداري على 7 رواتب، على ان يصبح عدد الرواتب بعد اقرار الزيادات المرتقبة: 9 رواتب للعسكري مرفقة بمنحة الـ 100 دولار من الجهات المانحة، والمتقاعد نحو 9 رواتب، فيما سيبقى موظف الادارة يتقاضى 7 رواتب يضاف اليها بدل النقل والانتاجية المستحدث.
اذاً سيوزع مبلغ الـ 1800 مليار ليرة شهريا على العسكريين والمتقاعدين وموظفي الادارة العامة (الف مليار ليرة تقريبا للعسكريين، و550 مليار ليرة للمتقاعدين، وما بين 250 و300 مليار ليرة للادارة العامة) مفصلة كالآتي: 3 رواتب للعسكريين و3 رواتب للمتقاعدين (ناقص 15% على اعتبار أن المتقاعد يتقاضى 85% من راتب العسكري في الخدمة الفعلية). أما الاداريون، فكان الاقتراح بأن يُخصص لهم بدل انتاجية يومي يراوح ما بين مليون و600 الف (فئة خامسة) ومليونين و400 ألف (فئة أولى). ولكن أُجريت بعض التعديلات، ليصبح بدل الانتاجية ما بين مليون و200 الف ومليونين ليرة (علما أن زيادة بدل الانتاجية ستخضع للضريبة)، شرط حضور 20 يوم عمل شهريا، وفي حال التغيب يوم واحد يُحسم كل المبلغ. وبناء عليه، وبغية ضبط الحضور والانصراف، ولتنفيذ نظام يعتمد على وجود بصمة إلكترونية، طلب رئيس الحكومة من كل الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات والمجالس والهيئات إجراء مسح شامل بشأن حاجاتها لآلات بصم إلكترونية.
يعتبر مصرف لبنان أن هذه الزيادات لا تؤثر على سعر الصرف، ولكن “في حال تجاوز هذا الرقم سنواجه حتما مخاطر نقدية ومالية. وبما أن أولوية مصرف لبنان هي المحافظة على الاستقرار النقدي، لا سيما استقرار سعر الصرف”، لذا نصح “المركزي” بأن تكون الزيادات “ضمن سقف محدد، انطلاقا من أن إعطاء زيادة مدروسة وعادلة، أفضل من إعطاء زيادة كبيرة قد تؤدي إلى التضخم وتصبح الزيادة من دون قيمة فعلية”.
وعلى رغم ان المبلغ الاكبر سيذهب الى العسكريين والمتقاعدين، بَيد أن المتقاعدين اعترضوا على الصيغة النهائية للاقتراح، كونهم لم يحصلوا على 85% من قيمة راتب الموظف والعسكري في الخدمة الفعلية وفق ما ينص عليه قانون التقاعد، وهي مطالب محقة برأي مصادر متابعة. لكن المبلغ المرصود من الحكومة والمتفق عليه مع مصرف لبنان محدود، وفي حال تقررت الاستجابة لجميع المطالب فسيرتفع حتما الى 5 آلاف مليار ليرة شهريا، وهو ما لا قدرة للمالية العامة ومصرف لبنان عليه، خصوصا أن عدد العسكريين في الاسلاك العسكرية كافة يناهز الـ 120 ألفا، يضاف اليهم 130 الف متقاعد عسكري ومدني.
العميد المتقاعد شامل روكز أكد لـ”النهار” أن “المطلوب العدالة والمساواة للعسكريين والمتقاعدين مع موظفي الادارة العامة، عبر اعطائهم الحد الادنى المطلوب للعيش بكرامة. فالضابط الذي كان يتقاضى 4 آلاف أو 5 آلاف دولار سابقا، تدنّى راتبه الى ما دون الـ 400 دولار حاليا. والقضاة والأساتذة يتقاضون دعما وافرا من صناديق مخصصة لهم، أما عوائل الشهداء ومعاقي الحرب فمتروكون”. وسأل: هل من إنتاجية أكثر من أن يستشهد رب عائلة أو معيلها أو يفقد جندي عضواً من اعضائه ويصبح من ذوي الحاجات الخاصة؟”.
وإذ أشار الى أن ثمة موظفين لا يداومون في مكاتبهم ومحميون من مرجعياتهم السياسية، سأل: “هل المطلوب من العسكريين للحصول على حقوقهم أن لا يداموا في مراكزهم ويتخلوا عن ضبط الامن وحماية المجتمع للحصول على تحفيزات انتاجية؟”، لافتا ان للموظف الحق في ما يحصل عليه، “ولكن على الحكومة تطبيق القانون بعدالة على جميع ابنائها العسكريين والموظفين والاداريين”.
لا ينكر روكز حق موظفي الادارة العامة بما سيحصلون عليه من زيادات وعطاءات، “ولكن طبعا ليس على حساب العسكر والمتقاعدين الذين دفعوا ثمنا غاليا، من شهداء وعائلات شهداء ومعاقين، عدا عن الثمن الذي يدفعه العسكريون الموجودون حاليا في الخدمة الفعلية”.
أما اذا كان ثمة تحرك سيقومون به رفضاً لما طُرح من زيادات فقال: “نحن الآن في انتظار ما ستفضي اليه المشاورات بين الحكومة ومصرف لبنان لنبني على الشيء مقتضاه”.