تصفية «صيرفة»: هل بدأ توحيد سعر الصرف؟
اتُّفق، في اجتماع أول من أمس بين رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، على المباشرة في توحيد سعر صرف الليرة مقابل الدولار، انطلاقاً من إلغاء تعدّدية الأسعار التي يعتمدها مصرف لبنان. وقالت مصادر مطّلعة إن توحيد سعر الصرف بشكله الأوسع سيُنفّذ بعد إقرار الموازنة، سواء صدرت بقانون في مجلس النواب أو بمرسوم حكومي في نهاية كانون الثاني 2024، ما سيتيح لمصرف لبنان تعديل ميزانيته بناءً على سعر الصرف الموحّد، وفرض هذا التعديل على ميزانيات المصارف. بناء عليه، أعلن «المركزي» في بيان أمس رفع سعر الصرف على منصّة «صيرفة» إلى 89500 ليرة للدولار، ما يجعله مساوياً لسعر السوق الحرّة ومتحرّكاً معها.
واستقر سعر «صيرفة» منذ أيار الماضي بين 86500 ليرة و85500 ليرة، بعدما بلغ ذروته في نهاية نيسان الماضي ووصل إلى 100750 ليرة بالتوازي مع ارتفاع سعر صرف الليرة في السوق السوداء إلى 140 ألفاً. وبعد تدخّل مصرف لبنان بضخّ الدولارات عبر المصارف إنفاذاً للتعميم 161 الذي أتاح التربّح من عمليات المضاربة على الليرة، تراجع سعر الصرف تدريجاً وانخفض معه سعر «صيرفة» ليستقرّا منذ أيار الماضي.
ورغم أن توحيد سعر الصرف مسألة دقيقة جداً، وأن القرار اتخذ بناءً على توصيات صندوق النقد الدولي، إلا أنه لم يُناقش في الحكومة ولم يتم التطرّق إليه بشكل واضح ورسمي. كما أن الإجراءات الدستورية لتسعير الليرة مقابل العملات الأجنبية غير واضحة في هذا القرار، وهو أمر مشابع لما حصل في التسعينيات عندما قرّر مصرف لبنان تثبيت سعر الصرف من خلال تدخّله في السوق شارياً أو بائعاً للدولار، أي من دون صدور قانون في مجلس النواب بتفويض الحكومة أو وزارة المال لمصرف لبنان أو أي مؤسسة رسمية القيام بهذا التسعير وتحديد أسسه ومعاييره. وبالتالي، لا يزال قرار تسعير الليرة غامضاً في شأن الجهة التي تحدّده، أو التي بيدها صلاحية إدارة سعر الصرف.
أياً يكن الأمر، فإن قراراً كهذا يأتي بعدما أهدر مصرف لبنان مليارات الدولارات من سيولته الخارجية على محاولات ضبط سعر الصرف من خلال «صيرفة». فقد مرصد البنك الدولي الأخير، أنّ مجموع العمليات المنفّذة على منصّة صيرفة منذ إنشائها حتى مطلع الربيع الماضي، بلغ 9 مليارات دولار، وأن كلفة هذه العمليات على مصرف لبنان بلغت 2.5 مليار دولار، وأنّ هذا المبلغ تحوّل أرباحاً في عمليات المضاربة بأيدي المنتفعين منها. وبذلك، فإن اتخاذ قرار بتصفية «صيرفة»، يعني إعادة دورها ووظيفتها إلى الشكل التقني المفترض لها، أي أن تكون مجرّد منصّة أو آلية تنظيمية لإدارة العمليات المتعلقة بتداول العملة الأجنبية مقابل العملة المحلية، وهو مطلب أساس لصندوق النقد الذي دعا في أكثر من مناسبة إلى «العودة إلى نظام سعر صرف موثوق». وهو ما دفع نواب حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري وسليم شاهين وبشير يقظان، الذين أطلقوا حملة لتسلّم منصوري مركز الحاكمية بالإنابة بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، إلى اشتراط إلغاء «صيرفة» وإطلاق منصّة بديلة بالتعاون مع خبراء صندوق النقد. وتبيّن لاحقاً أن هذه المنصّة ستكون مُدارة من شركات أجنبية وتطبق قواعد الامتثال الأميركية.
ثمة مسألة أساسية في عملية التوحيد هذه، وهو أنها ستنعكس مباشرة على ميزانيات الشركات في لبنان. ورغم أنه من الطبيعي أن يكون سعر الصرف السائد في السوق الحرّة هو السعر المعتمد رسمياً، إلا أن رغبة الحاكم السابق بالاستفادة من تعددية الأسعار، لم يُطبّق سعر صرف السوق إلا في الدفاتر الخاصة للشركات التجارية، بمعنى أنه لم ينعكس على ميزانياتها المصرّح عنها رسمياً، ولا على الضرائب المترتّبة عليها، بل انحصر الأمر في أرباحها غير المسجّلة. بالنسبة إلى المصارف كان الأمر مماثلاً، إذ بقي سعر الصرف في دفاترها وميزانياتها بقيمة ثابتة على سعر 1507.5 ليرات وسطي منذ انفجار الأزمة حتى شباط 2023 حين تقرّر رفعه إلى 15 ألف ليرة. أما الآن، فإن عملية التوحيد سواء كانت «خنفشارية» أو «قانونية»، فإنها ستؤدي إلى رفع سعر الدولار المسجّل في ميزانيات المصارف إلى ما يوازي سعر السوق، وسينعكس بالتالي على موجودات المصارف بالعملة الأجنبية وعلى مطلوباتها أيضاً، ويعمّق إفلاس المصارف ومصرف لبنان.
لكنّ الأهم في شق الموجودات المصرفية، أن للمصارف قروضاً في السوق ستستوفيها بسعر الصرف الذي سيُعتمد رسمياً، وستسعّر توظيفاتها في سندات اليوروبوندز وموجوداتها العقارية والجزء الأجنبي من رساميلها وتوظيفاتها لدى مصرف لبنان وفق سعر صرف جديد، مقابل تسعير المطلوبات التي هي بشكل أساسي ودائع، بسعر الصرف السوقي.
توحيد سعر الصرف سينعكس مباشرة على ميزانية مصرف لبنان والمصارف وسيعمّق الإفلاس.
هل يعني هذا أن ميزانيات المصارف متوازنة (التوازن بين الموجودات والمطلوبات) وأنه لم يعد هناك أي «هيركات» على الودائع؟ حالياً، الدولار المصرفي يُسحب من المصرف بسعر صرف 15 ألف ليرة ضمن سقف أقصاه 1600 دولار شهرياً. والمصرف المركزي لا يعطي المصارف ليرات كافية لتغطية سحب مبالغ كبيرة من هذه الودائع، أي إنه يقنّن ضخّ الليرات في السوق خوفاً من أن يصبح ضخّ هذه الليرات طلباً على الدولار يؤدي إلى خلل في سعر الصرف السوقي. هذا يعني أن أي تعديل في سعر الصرف، يشترط حكماً تعديلاً في ميزانيات المصارف من دون أن تتضح إجراءات السحب المتاحة فعلياً للمودعين. لذا، يعمل مصرف لبنان على تعديل التعميم 151 الذي يسعّر الدولار المصرفي بقيمة 15 ألف ليرة. ويدرس المجلس المركزي تجديد هذا التعميم بعد تعديله بما يتلاءم مع عملية توحيد سعر الصرف، أي باعتماد سعر الصرف السوقي كأساس لتحويل الدولار المصرفي وسحبه من المصارف، شرط خفض سقوف السحب المحدّدة لشرائح المودعين. وهذا يعني ضمناً أن الهيركات صار مؤجّلاً، لأن سقف السحوبات المتاح الذي يعمل عليه نائب الحاكم سليم شاهين، لن يغطي سحوبات كبيرة من الودائع. فعلى سبيل المثال، سيكون مسموحاً سحب 300 دولار شهرياً بسعر السوق من وديعة قيمتها مليون دولار، أي إن سحب الوديعة كاملة يتطلب أكثر من 3300 شهر أو 277 سنة.
بهذا المعنى يتم تأجيل الهيركات إلى مرحلة لاحقة في انتظار خطة واضحة لما سيكون عليه الأمر بالنسبة إلى الخسائر في مصرف لبنان والمصارف. خسائر سندات اليوروبوندز، خسائر توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، خسائر المصارف من القروض التجارية، ومراكز القطع السلبية بالعملات الأجنبية… كل نسبة من الخسائر ستنعكس مباشرة على ميزانيات المصارف، وستفرض عليها مؤونات تتجاوز رساميلها. أي إنه بمجرّد توحيد سعر الصرف واعتماد سعر السوق رسمياً، تُفلس المصارف أو غالبيتها بشكل مباشر، وتتحتّم عليها إعادة الرسملة. هنا تصبح المسألة مختلفة، إذ إن معايير إعادة الرسملة مما يُسمّى متطلبات كفاية رأس المال (ملاءة وسيولة…) ترتبط بما تقرّره الحكومة وما إذا كانت ستعتمد المعايير المحدّدة حالياً في مصرف لبنان أو ستعدّل فيها.
الرواتب والتعرفات: أيّ سعر؟
خلال الفترة الماضية، اعتمدت بعض المؤسّسات مثل كهرباء لبنان وشركات الخلوي وغيرها أسعار صرف متعدّدة، بعضها مبني على «صيرفة» وبعضها مركّب. والأمر نفسه ينسحب على أسعار الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة، والتي اعتمدت أسعار صرف مختلفة من دون أي تصريح واضح حول أسس هذا الاعتماد. كما اعتمد سعر «صيرفة» لمنح الموظفين في القطاع العام زيادة على رواتبهم وأجورهم تمثّل الفرق بين سعر المنصة وسعر السوق. لذا، بمجرّد تغيّر سعر الصرف، فإن كل هذه الأسعار يفترض أن تتوحّد، أي أن تصدر قرارات بشأنها لتصبح مساوية لسعر الصرف المعتمد من الحكومة ومصرف لبنان. وبالتالي، سيفقد الموظفون في القطاع العام الزيادة المحصّلة من فروقات سعر الصرف التي كانت تراوح بين 3% و5%، وسيتحتّم إصدار قرارات جديدة بشأن تسعير الكهرباء التي كانت مبنية على سعر «صيرفة + 20%».