زيارة لودريان في لحظة التحولات الاقليمية
لم تكد تمضي أربع دقائق فقط على انتهاء الهدنة في غزة حتى استأنفت اسرائيل توجيه حِممها، ولكن مع تركيز أكبر على القسم الجنوبي من قطاع غزة هذه المرة.
الواضح أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اتخذ قراره بالهروب عن طريق الإندفاع الى الأمام. ذلك أن فشل اسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة وبالتالي عدم إمكانية نتنياهو من توظيف «انتصار» ما على المستوى الداخلي للتخفيف من حدة النقمة عليه، جعله يائسا ومستعدا للذهاب الى النهاية في مغامرته الحربية، حاملا معه هذه المرة هدف إنجاز المنطقة العازلة.
فنتنياهو مع القادة العسكريين والامنيين باتوا يبحثون عن حبل نجاة يخفف من وطأة الحساب ولجان التحقيق نتيجة الإخفاق الكبير يوم حصول «طوفان الأقصى».
والشارع الإسرائيلي الذي ما زال مصدوما من «طوفان الأقصى» وهو ما سيبقى محفورا في وجدانه، ما زال بغالبيته مؤيدا للحرب. لكنّ مزاجه قد يتبدل في حال بقيت نتائج الميدان سلبية الى جانب التراجع الإقتصادي.
ونتنياهو وائتلافه الحكومي مُرتعبان من أرقام الاستطلاعات، لا سيما أن اعلان انتهاء الحرب سيقود فوراً الى انتخابات جديدة.
لذلك رسمت الحكومة الاسرائيلية ثلاثة أهداف لها لجولتها الجديدة:
1 – تحقيق المنطقة العازلة.
2 – إبعاد «حزب الله» عن الحدود.
3 – تنفيذ اغتيالات تعطي صدى في الداخل الاسرائيلي وتعيد له بعض الثقة بقيادته.
وخلال الأيام الماضية كشف النقاب عن طرح نتنياهو للمنطقة العازلة من خلال قنواته السرية على الاردن ومصر إضافة الى السعودية، فيما تواصلها قائم مع قطر كوسيط في ملف إطلاق الرهائن. وأرفق ذلك بتسريب خطة تقضي بتقسيم قطاع غزة الى عشرات المناطق الصغيرة، وسط تلميحات للجيش الاسرائيلي بأنه يتوقع أن تستغرق الجولة العسكرية الجديدة في جنوب غزة وقتاً أطول من الشمال بحيث تستمر حتى شهر كانون الثاني المقبل ولو مع فترات سماح.
والمعروف عن جغرافية قطاع غزة أنه بطول حوالى 40 كلم، ولكن بعرض يتراوح ما بين 5 الى 12 كلم، ويقطنه زهاء مليوني و300 ألف فلسطيني. وبالتالي فإن المنطقة العازلة التي تطالب بها اسرائيل تعني الإبقاء على مساحة ضئيلة للفلسطينيين وتكون أقرب الى المنطقة «الرمزية». واستطراداً، فهذا يؤشر بوضوح الى اسقاط اسرائيل حكماً لخيار الدولتين الذي تصرّ واشنطن على تطبيقه. لذلك كان منطقيا إعلان واشنطن معارضتها لأي خطوة تؤدي الى تقليص مساحة الاراضي الفلسطينية.
في المقابل تمسكت الحكومة الإسرائيلية بفكرة المنطقة العازلة ولو أنها لمّحَت الى إمكانية تقليص العمق الذي تطرحه لها من كيلومترين الى كلم واحد وربما أقل.
لكن السؤال البديهي هو: هل الرفض الاميركي يبدو فعليا أو حازما ؟
اسرائيل من جهتها أظهَرت أنها ماضية في مشروعها وهي باشرت هجومها البري في القطاع الجنوبي عبر خان يونس مسقط رأس يحيي السنوار ومحمد ضيف، وهدفها يبقى إفراغ الجنوب على غرار الشمال. وهذا ما استدعى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الى توجيه «نصيحة» للاسرائيليين نابعة من الدروس التي تعلمها من العراق، ومفادها بأنّ حماية المدنيين ليست مجرد مسؤولية أخلاقية بل ضرورة استراتيجية، خشية أن يؤدي عكس ذلك الى استبدال النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية. وكشف في هذا النقاب عن المكالمة المتوترة بين البابا فرنسيس والرئيس الاسرائيلي حيث شجَب رأس الكنيسة الكاثوليكية المجازر الاسرائيلية المروعة وأضاف ردا على تبرير مُحدثه: ممنوع الرد على الإرهاب بالإرهاب.
وعلى هامش أعمال مؤتمر المناخ، والذي عقد في دبي، أعلنت نائب الرئيس الأميركي كمالا هاريس بأن واشنطن لن تسمح بإعادة الترحيل القصري للفلسطينيين، أو إعادة رسم الحدود. ورحّبت في المقابل بترتيبات أمنية مقبولة لإسرائيل «والشركاء المعنيين بحرب غزة». وفي موازاة ذلك شكك الرئيس الفرنسي في إمكان تحقيق اسرائيل لأهدافها.
وإنّ هذين الموقفين يظهران التباين الموجود بين اسرائيل وداعميها حول النتائج المطلوبة من الحرب.
أما وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن فهو يؤيّد بقوة البحث حول مستقبل غزة والصورة السياسية قبل وقف الحرب، أي إنجاز العناوين العريضة للتسوية الشاملة على نار الحرب. وهذا ما يفتح الباب حول الوضع في ساحات المنطقة وفي طليعتها الساحة اللبنانية.
ولذلك لا بد من التوقف ملياً أمام الظهور العنيف المستجد لداعش في شمال العراق، فالاشتباكات عادت مع الجيش في محافظة نينوى. والمعروف أن عناصر داعش يستغلون الفراغات الأمنية الموجودة، خصوصا ما بين محافظتي صلاح الدين وديالي، وما بين كردستان وكركوك.
وفي سوريا تحفيز أكبر للإحتجاجات الشعبية في السويدا والمنطقة الجنوبية القريبة للحدود مع اسرائيل. فسجل انخراط أوسع شمل قطاعات جديدة، ومشاركة للنقابات الحرة. وكان معبرا جدا اقتحام المتظاهرين في مدينة شهبا شمال السويدا لمقر حزب البعث وتفريغ محتوياته وتسليمه لأصحابه الأصليين. وهو ما يعزز الانطباع بإنشاء منطقة عازلة هويتها سورية ولكنها ستتمتع بحكم ذاتي مستقل.
أما في لبنان حيث القلق من احتمال تنفيذ الموساد الإسرائيلي لعمليات اغتيال وفق التهديد الاسرائيلي، فإنّ التلميحات أظهَرت وجود توجّه جديد تحت عنوان تطبيق القرار 1701، والهدف إبعاد الآلة العسكرية لـ»حزب الله» عن الجنوب.
أغلب الظن أن ما يشهده لبنان الآن هو أقرب الى «التحمية» منه الى الشروع في تنفيذ البرنامج. والسبب أنه لا بد من تأمين المظلة الإقليمية قبل ذلك، أي إنجاز التفاهمات مع ايران على مستوى المنطقة على نار غزة. ذلك أنّ «الصفقة» الإقليمية «دسمة جدا» وهي تشبه يالطا شرق أوسطية.
وخلال الزيارة الرابعة للموفد الرئاسي الفرنسي الى لبنان، أطلق جان إيف لودريان العديد من الرسائل التي بدت أكثر حزما هذه المرة. وهذا ما ميّز جولته الأخيرة. لكن تبقى ثلاث إشارات أساسية لها رابط واضح بالتطورات الاقليمية، فهو تعمّد إظهار تحرّكه بإسم الدول الخمس، ولذلك كان الإعلان عن عشاء سفراء هذه الدول في قصر الصنوبر. إضافة الى إظهاره التطور في الموقف السعودي لناحية انخراطه في الملف اللبناني، وهو ما كانت تتمنّع عنه السعودية طوال المراحل الماضية، ما يعني أن الوقت قد حان للتحرك.
أما الإشارة الثانية فهي بأنّ الحرب في غزة ستسرّع في عملية انتخابات الرئاسة لا العكس كما هو سائد. والربط هنا مع ضرورة أن يكون للبنان رئيس وحكومة شرعية لحضور مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط يجري التحضير له على ما يبدو لمواكبة إعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة المنطقة من خلال صفقة «يالطا جديدة» تلوح في الأفق.
أما الاشارة الثالثة فتتعلق بحسابات المؤسسة العسكرية التي يجب أن تتجاوز «النكنكات» الداخلية والشخصية الضيقة والتطلّع الى المتغيرات الكبرى التي طالت وستطال كافة أرجاء الشرق الاوسط، إضافة الى المخاطر المرتفعة والظروف الحساسة جدا التي تنتظر لبنان وجنوبه. ولذلك تعمّد لودريان أن يكون «صادِماً» في قطع اجتماعه بباسيل، وهي رسالة مقصودة في حد ذاتها.
من هذه الزوايا الإقليمية يمكن قراءة مهمة لودريان الأخيرة الى لبنان لا من زاوية العناوين الداخلية الرتيبة.