اللغة الوحيدة التي تفهمها الدولة!
في دولة تضيع فيها معايير الإنتاجية ومبادئ الثواب والعقاب، وتسود مكانها المحسوبية والزبائنية في دواوين الدولة وإداراتها، تُصبح الإضرابات هي اللغة الوحيدة الصالحة للتعاطي مع سلطة متلاشية، وعاجزة عن القيام بواجباتها، ولكنها في الوقت ذاته، لا تتردد عن إرتكاب «السبعة وذمتها»، للحفاظ على مصالح أطرافها الشخصية والفئوية!
بعد سلسلة الإضرابات لموظفي الدولة، التي شلّت الإدارات العامة، وعطّلت مالية الدولة، وأضرّت بمصالح المواطنين، يأتي الإضراب الذي أعلنه المدراء والموظفون في المالية العامة، إحتجاجاً على عدم إنصافهم في تعديل رواتبهم، وتجاهل طلبات مساواتهم مع موظفي قطاعات أخرى في الدولة، مثل القضاة وأساتذة الجامعة اللبنانية وغيرهم، الذين نالوا منح وتسويات عادلة على رواتبهم.
في زمن مُنعت فيه المؤسسات الرقابية عن القيام بمسؤولياتها في التقييم والتحقيق، أصبحت مصالح الوزراء والممسكين بزمام السلطة، هي المعبر الأساس للتوظيف والتعيين، والوسيلة الأنشط في إصدار قرارات الترقيات والمكافآت، للأزلام والأتباع، بغض النظر عن مقاييس الإنضباط والمسلكية والإنتاجية في العمل.
وأدت فوضى التعيين والتوظيف في الوزارات والمصالح العامة، إلى تضخم سرطاني في حجم القطاع العام البشري، حيث بلغ عدد موظفي الدولة حوالي ٣٥٠ ألف موظف، في حين أن حاجتها لا تتجاوز نصف هذا العدد، أو أقل قليلاً.
الأنكى من ذلك أن أكثر من ربع الموظفين لا يحضرون إلى مراكز تعيينهم، ويقبضون رواتبهم كل شهر، بل وبعضهم هاجر إلى كندا وأستراليا، وغيرها من بلاد الإغتراب، وما زال راتبه يصل إلى حسابه المصرفي في آخر كل شهر. في حين أن الموظفين الملتزمين بالحضور والدوام، ويقومون بواجباتهم العملية، ويساهمون في تأمين مداخيل الدولة المالية، يقبضون نفس رواتب الذين لا يحضرون، وأولئك الذين تركوا البلد، ومازالت قيودهم موجودة على جداول الإدارات التي عُينوا فيها.
ولو أراد مدراء وموظفو المالية العامة في الدولة العليّة سلوك دروب الفساد، لأصبحوا مثل غيرهم من أصحاب الثروات التي تُغنيهم عن اللهث وراء سراب الراتب، ولا يضطرون على مواجهة تحديات الإنهيارات الراهنة باللحم الحي.
فهل يدرك من بيدهم الحل والربط من أهل السلطة، وقبل فوات الاوان، أن الإضراب المالي يكبد الخزينة عشرات المليارات يومياً، والدولة بأمس الحاجة إلى كل ليرة لسد قسم من عجز الموازنة، والإستمرار بتأمين الرواتب للقطاع العام والأجهزة العسكرية والأمنية.