الاستقرار النقدي والاستقلال الحزين – العميد المتقاعد غازي محمود
المطلوب أكثر من مجرد استقرار نقدي
بينما ترتفع حدة ووتيرة الاشتباكات على حدود لبنان الجنوبية مع العدو الإسرائيلي بالتزامن مع حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة ومخاطر اندلاع حربٍ شاملة، وعلى وقع السجالات الداخلية العقيمة، أصدر مصرف لبنان في ١٧ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٣، التعميم الوسيط رقم ٦٨٢ متضمناً القرار الوسيط رقم ١٣٥٩٢. الذي عدل القرار الأساسي ١٣٣٣٥، ووسع مروحة المستفيدين من التعميم ١٥٨، وذلك من خلال السماح بالاستفادة من هذا التعميم، للحسابات التي جرى إقفالها أو نقلها من مصرف إلى آخر بعد ٣١ تشرين الاول/اكتوبر ٢٠١٩، وحال دون استفادتها من هذا التعميم في حينه.
وتجدر الإشارة الى أن التعميم الأساسي رقم ١٥٨، هو تعميم للقرار الاساسي رقم ١٣٣٣٥ تاريخ ٨ حزيران/يونيو ٢٠٢١، الذي سمح بالتسديد التدريجي للودائع بالعملات الاجنبية المكونة في الحسابات المفتوحة قبل ٣١ تشرين الاول/اكتوبر ٢٠١٩. وذلك من خلال السماح للمودع الذي تنطبق عليه شروط هذا التعميم بأن يسحب نقداً ٤٠٠ دولار شهرياً، على ألا يزيد مجموع السحوبات السنوية عن ٤٨٠٠ دولار. بالإضافة الى ما يعادل هذا المبلغ بالليرة اللبنانية على أساس سعر منصة صيرفة في حينه، نصفه نقداً والنصف الآخر في الحساب لإنفاقه بواسطة البطاقات المصرفية او الشيكات او التحويل الى حساب آخر داخل لبنان لدى المصرف نفسه أو لدى مصرف آخر.
ويأتي التعميم الجديد بعدما كان مصرف لبنان قد أصدر بتاريخ ١٥ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٣، تعميماً وسيطاً حمل الرقم ٦٧٨ عمم بموجبه قرار المجلس المركزي رقم ١٣٥٨٠ الصادر بنفس التاريخ. والذي يتعلق بتمديد العمل بالتعميم الأساسي رقم ١٥٨ بعد تعديله، حيث سمح للمستفيدين من أحكامه قبل تاريخ ١ تموز/يوليو ٢٠٢٣ الاستمرار بالسحب نقداً ٤٠٠ دولار شهرياً، من دون المبلغ الإضافي الذي يُعادله بالليرة اللبنانية. أما فيما خص العملاء الذين لم يستفيدوا من أحكام هذا التعميم قبل تاريخ ١ تموز/يوليو ٢٠٢٣، فيمكنهم السحب نقداً فقط ٣٠٠ دولار شهرياً، على ألا يزيد مجموع سحوباتهم السنوية عن الـ ٣٦٠٠ دولار.
وجدير بالذكر أن التعميم ٦٨٢، بحسب البيان الصادر عن المجلس المركزي لمصرف لبنان، هو نتيجة التفاهم بين المصرف وجمعية مصارف لبنان لإتاحة الفرصة امام شريحة جديدة من المودعين الاستفادة من هذا التعميم، وهو يأتي لإنصاف المودعين في حدود الإمكانات المتاحة حالياً، وضمن إطار صلاحيات حاكم مصرف لبنان بالإنابة. وفي بيان المجلس المركزي تأكيد جديد على وجوب إيجاد حل نهائي يؤمّن حقوق كافة المودعين عبر تفاهم جميع المعنيين لإقرار خطّة شاملة لحلّ هذه الأزمة الوطنية.
الامر الذي يجعل من التعميم الوسيط رقم ٦٨٢ محاولة جديدة، وعسى أن تكون جدية، في اعادة الثقة المطلوبة بالسياسات النقدية لمصرف لبنان، من خلال شمول حيثياته مستفيدين جدد من احكام التعميم الأساسي ١٥٨ الآنف الذكر. وخاصةً بعد أن أوقف هذا التعميم الوسيط عملية الهيركات على السحوبات التي سببها على مدى سنتين ونيف التعميم الأساسي ١٥٨ نفسه.
إلا أن التعميم الوسيط ٦٨٢ لم يشمل الحسابات التي تم تحويلها من الليرة اللبنانية الى الدولار بعد تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٩ ولا الحسابات التي بقيت كما هي قبل ذلك التاريخ ولم تستفد من التعميم ١٥٨. الامر الذي يُبقي ودائع هذه المجموعة من المودعين معلقةً بين سحبها على أساس سعر ١٥٠٠٠ ليرة لبنانية للدولار الاميركي مع ما يُشكله ذلك من هيركات لودائعهم، او نسيانها الى أن يتبلور الحل المناسب لكل الودائع، علماً أن التحويل من الليرة الى الدولار تم من خلال المصارف وبموافقة مصرف لبنان في حينه.
في المقابل، يستمر مصرف لبنان في تأمين استمرارية الاستقرار النقدي، من خلال تأمينه الرواتب البالغة قيمتها ٨٠ مليون دولار أميركي شهرياً حتى نهاية شباط/فبراير من العام ٢٠٢٤ القادم، من دون المس بما تبقى من أموال المودعين او غيرها من الاحتياطات. الامر الذي يؤكد استمرار استقرار سعر الصرف على الرغم من بعض المحاولات التي تنبه لها مصرف لبنان في الوقت المناسب، ويُعزز الآمال بأن يتمكن مصرف لبنان من تمديد الاستقرار الى مواعيد ابعد من شهر شباط القادم، سيما وأن هذا الإنجاز تم في هذا التوقيت الحرج من تاريخ لبنان والمنطقة.
وتجدر الإشارة الى أن حجم الرسوم والضرائب التي تجبيها الدولة، يكفي لدفع رواتب موظفي القطاع العام والأجهزة العسكرية والأمنية والمتقاعدين، وما يكفي كذلك لتلبية نفقاتها الشهرية والتي تقتصر على المصاريف التشغيلية. وكان حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور منصوري قد لمح الى حجم هذه الإيرادات، في المؤتمر الصحفي الذي عقده عشية توليه مهام الحاكمية في نهاية تموز/يوليو الماضي، في دعوة للدولة للاعتماد على إيراداتها لتلبية نفقاتها، وهو مستمر في الالتزام بعدم التمويل بما فيها تمويل خطة الطوارئ.
كما أن السيولة الخارجيّة لمصرف لبنان قد بلغت في نهاية شهر تشرين الأوّل ٢٠٢٣، قُرابة الـ ٩ مليار دولار أميركي، مقارنةً بـ ٨,٧٨ مليار دولار أميركي في منتصف الشهر نفسه. فيما بينت ميزانيّة مصرف لبنان الصادرة في نهاية تشرين الأول/أكتوبر، ارتفاعاً في موجوداته الخارجيّة بلغ قدره ١٥٣,٦٢ مليون دولار أميركي (١,١٠%) خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل ٢٠٢٣ إلى ١٤,١٤ مليار دولار أميركي ما يُعادل ٢١٢,١٧ ترليون ل.ل.
وعلى الرغم من فعالية السياسات النقدية التي اعتمدها حاكم مصرف لبنان بالإنابة، والتي مكنته من تمديد استقرار سعر صرف العملة الوطنية، في الوقت الذي تكبر فيه التحديات الاقتصادية والمناكفات السياسية والاخطار الأمنية المستجدة، إلا أن ذلك لا يُبرر غياب خطط الحكومة لمواجهة التحديات على اختلافها، والحد من آثارها التي تتربص بالوطن وابنائه.
حيث إن الاستقرار الحقيقي لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية لا يُمكن أن يقوم على السياسات النقدية وحدها، التي وعلى أهميتها لا يُمكن ان تحقق مُنفردة حتى الأهداف النقدية البحتة. بل لا بد من أن تلاقيها السياسات المالية والاقتصادية في وسط الطريق لتجعل من الاستقرار استقراراً مستداماً ويسمح باستعادة النمو الاقتصادي. سيما وأن لبنان خَبِر أكثر من ايّ بلد آخر تبعات اقتصار المعالجات الاقتصادية على السياسات النقدية التي تسببت بضرب العملة الوطنية وهدر الودائع والاحتياطات من العملات الاجنبية وتعثر القطاع المصرفي، وصولاً الى الانهيار الاقتصادي الذي لا زلنا نعيش تداعياته حتى اليوم.
اما عيد الاستقلال، فيأتي حزيناً هذه السنة لا على شهداء لبنان وغزة، مقاومين وابرياء اطفالاً ونساء وحسب، بل على الجمهورية التي تتلاشى سلطتها وتندثر مؤسساتها في غياب رئيسٍ للجمهورية يقودها الى بر الأمان. ولعل المعنيون يجدون في عيد الاستقلال دافعاً لإخراج الإصلاحات المطلوبة من المتاهة التي تدور بها ووضع حدٍ للازمة المالية والاقتصادية التي يتخبط بها البلد، بمعالجة أسباب الازمة برمتها وليس تحقيق الاستقرار النقدي وحسب.