المساعدات الدولية تُبقي لبنان واقفاً على قدميه… ومن الممكن أيضاً أن تُدمّر بعض مؤسساته
بالكاد يتمكن لبنان من الصمود في ظل وضع اقتصادي وسياسي متردّ، وذلك بفضل شكل من المساعدات الدولية المُخصصة عادة للدول المُفككة. وما لم يقم المانحون والحكومة اللبنانية بإعادة التقييم، فإن المساعدات التي من المفترض أن تساعد يمكن أن تخلق المزيد من المشاكل.
لم تتسبب الأزمة الاقتصادية في لبنان في إفقار شعب البلاد فحسب، بل دفعت الدولة اللبنانية أيضاً إلى حافة الانهيار. دفع ذلك إلى تدخل الجهات المانحة الدولية لتكفل المؤسسات والخدمات العامة في البلاد، وضمان بعض الوظائف الأساسية للدولة اللبنانية للوقت الحالي.
المساعدات الخارجية للبنان ليست جديدة، فمنذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990 تلقت البلاد المليارات من المساعدات التنموية. لكن هذا النوع من المساعدات مختلف عن الوضع الحالي، حيث أن الدول والمؤسسات المانحة تساعد الآن في دفع تكاليف التعليم العام والرعاية الصحية والمساعدة الاجتماعية والأمن وغير ذلك من وظائف الدولة الأساسية في لبنان، حتى أنها ترعى جزئياً رواتب المعلمين والجنود. طبقاً لمصادر مجموعة من المانحين، هذا النوع من المساعدات يذهب عادة إلى البلدان التي دمرتها الحروب.
في الوقت الحالي، مدى حكمة واستمرارية تلك المساعدات غير واضح. ويبدو أن الكثير منها غير منسق وغير مخطط، حيث أن جزءاً منه يتم تخصيصه بناء على الحاجة. ولا يبدو أن أحداً بعينه لديه تلك المسؤولية، بالرغم من أن هذه المساعدات تقوم بإعادة توجيه قطاعات الخدمات الأساسية مثل النظام الصحي اللبناني. وفي ظل غياب أي رؤية مشتركة حول أين تذهب هذه المساعدات، أو بالأحرى إلى أين يجب أن توجه، توجد مخاطرة كبيرة بأن تؤدي تلك المساعدات إلى تشويه سياسة لبنان وتنميته الوطنية. ولذلك، يجب أن يكون هناك جرد شامل وأكثر انفتاحاً لإحصاء تدخلات المانحين المختلفة في لبنان، حيث أن وجود مثل هذا الإحصاء في متناول اليد مهم بفتح نقاش صريح حول أي من هذه البرامج فعّال وجدير بالاهتمام وبالتالي مفيد للبلاد.
تطور المساعدات المقدمة إلى لبنان
منذ بداية الأزمة اللبنانية في عام 2019، رفض المانحون الأجانب في الغالب تقديم المساعدة التنموية للبنان ما لم تنفذ النخب الحاكمة الإصلاحات الأساسية اللازمة لتحقيق الاستقرار في اقتصاد البلاد. ولكن النخب تجنبت أي إصلاحات، والأزمة أصبحت أكثر طولاً وشدة.
في الوقت نفسه، استمر هؤلاء المانحون في تكفل مساعدات إنسانية موازية تهدف إلى الاستجابة لآثار الصراع السوري المجاور للبنان. تلك الجهود استهدفت اللاجئين السوريين في المقام الأول، ولكنها مؤخراً وبشكل متزايد تدخل في خط تقديم المساعدات للمواطنين اللبنانيين كاستجابة للأزمة الحالية، حيث يتم تقديم الكثير من هذه المساعدة إلى، أو من خلال، المؤسسات العامة في لبنان، بما في ذلك نظام التعليم العام.
والآن، زادت الدول المانحة الأجنبية دعمها للمؤسسات العامة في لبنان مع انهيار إنفاق الحكومة اللبنانية. وفي عام 2022، قام المانحون الأجانب بتقديم مئات الملايين من الدولارات كمساعدات للمؤسسات اللبنانية أو من خلالها، فوفقاً لمسؤول كبير في الأمم المتحدة، تم تسليم أكثر من 300 مليون دولار من خلال وكالات الأمم المتحدة فقط. في غضون ذلك، تراجع إنفاق الدولة اللبنانية في 2022 إلى أدنى مستوى (اسمي) على الإطلاق وبات قدره 1.2 مليار دولار انخفاضاً من 17.6 مليار دولار في عام 2018. وفي ظل هذا الإنفاق المتدني للغاية، فان مساعدات المانحين قد تكون كافية لإعادة تشكيل الدولة اللبنانية.
في تقريري الأخير لمركز القرن الدولي للبحوث والسياسات بعنوان “ كيف تهدد المساعدات الخارجية مؤسسات لبنان“، تحدثت مع مسؤولي الدول المانحة وممثلي المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية والمسؤولين والسياسيين اللبنانيين ومزيج من الخبراء اللبنانيين، حول التأثير المزدوج لهذا الدعم وكيف يمكن أن يكون هذا الدعم الخارجي للمؤسسات والخدمات العامة في لبنان بمثابة شريان حياة لسكان البلاد، وفي الوقت نفسه يكون له مزيج من أنواع الآثار الضارة على تنمية البلاد في المدى البعيد.
مشاعر سلبية
لا يبدو أن أحداً سعيد بشأن كيفية عمل المساعدات المقدمة للبنان الآن، وبالفعل أصبحت العلاقة بين ممثلي المانحين والمسؤولين والنخب في لبنان سامة. عملياً، معظم هذه المساعدات هي جزء من الاستجابة للاجئين السوريين، مما يعقد المفاوضات بين ممثلي الجهات المانحة والمسؤولين اللبنانيين حول أي نوع من شروط الإصلاح. ومع عدم إحراز تقدم في الإصلاحات الأساسية الضرورية لاستقرار الاقتصاد اللبناني، فالنتيجة قد تكون ما يُسمى بإجهاد المانحين أو “إرهاق لبنان”، على حد تعبير أحد الدبلوماسيين، والتي قد تؤدي إلى فقدان الاهتمام والأمل في جدوى مساعدة لبنان على المدى البعيد.
من السهل أن نرى كيف يمكن لهذا النوع من الدعم أن يساعد الناس في البلاد، بما في ذلك اللبنانيين في السياقات الهشة واللاجئين، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى إضعاف الدولة والمؤسسات، وإدامة حكم النخبة الاستغلالية، وترسيخ علاقات تبعية واعتمادية جديدة، بالإضافة إلى تقليص سيادة البلاد الضعيفة بالفعل.
من خلال اختيارهم للجهات والمؤسسات التي يوجهون مساعداتهم إليها، من الوارد جداً أن يكون المانحون قد اختاروا فعلياً أي مؤسسة عامة لبنانية ستنجو من هذه الأزمة. لكن مصالح هؤلاء المانحين ليست نفسها مصالح لبنان.
ولذلك يجب على المانحين أن يعيدوا تقييم أي من المساعدات تعتبر إنسانية حقاً – أي أنها مساعدات ضرورية للغاية لدرجة وجوب استمرار تقديمها للفئات المستضعفة بغض النظر عن أداء الحكومة اللبنانية – وما هي المساعدات التي يمكن جعلها مشروطة وحجبها إذا رفضت الحكومة عمل الإصلاحات الضرورية. لكن من حق المواطنين اللبنانيين أيضاً أن يخوضوا نقاشاً حقيقياً حول هذه المساعدات وتأثيرها على بلدهم. فإذا لم تفعل النخب الحاكمة في البلاد ذلك، فهناك آخرون يمكنهم القيام بتبني هذا النقاش كالبيروقراطيين والباحثين والصحفيين اللبنانيين الأكفاء.
بالطبع هناك أسباب وجيهة لهذه المساعدات، وتوجد طرق عدة يمكن أن تجعلها مفيدة للبنان على المدى البعيد. ولكن لا يمكن إن يتحقق هذا طالما لا يتم طرح بعض الأسئلة الصعبة أمام المانحين واللبنانيين حول ما إذا كانت هذه المساعدات منطقية أم لا، وما إذا كانت تساهم في تنمية لبنان ومؤسساته وكيف تقوم بذلك، بالإضافة إلى كيفية التوفيق بين مصالح المانحين الأجانب والحكومة اللبنانية والشعب اللبناني. ففي نهاية المطاف، لن يُبقي المانحون الأجانب الدولة اللبنانية على أجهزة الإنعاش للأبد. (ذا سنشري فاونديشن)
(*) سام هيلر هو باحث ومحلل مقيم في بيروت وزميل في مركز القرن الدولي. يركز عمل سام على السياسة والأمن في لبنان وسوريا وجوارهما الإقليمي. وقد نشرت أعماله على نطاق واسع مع مجموعة الأزمات الدولية ومؤسسة القرن ومع منافذ إعلامية مثل فورين أفيرز، ووار أون ذا روكس، وذا ديلي بيست.