كيف ستنتهي الحرب، وأين لبنان من الطّوفان؟
تحيّة لغزّة أوّلاً، لأطفالها ونسائها وشيوخها الّذين يدفعون ثمن غطرسة وعنجهيّة الكيان الصّهيوني بعدما مني بهزيمة وإهانة جعلته «يركع على قدميه» كما قالت صحيفة «معارف» أمام أبطال طوفان الأقصى العظيم حيث ضرب «القسّام» بعصاه فأغرق الفرعون الصّغير، نتنياهو، وجنده في غضون ساعات.
وتحيّة للمقاومين المحاصرين البواسل الّذين حقّقوا معجزة في زمن خلا من المعجزات، فحاصروا مُحاصرهم، وما يزالون، داخل عدّة مستوطنات يسرحون ويمرحون ويسطّرون آيات نصر وصمود قلّ نظيرها، فوضعوا الأعداء والأصدقاء أمام لحظة الحقيقة.
لكنّ الحقيقة دائمًا مُرّة، فالأعداء اتّحدوا نصرةً لإسرائيل كلّ من موقعه، والأصدقاء تفرّقوا ولم يثبت منهم سوى قلّة قليلة، وغزّة تُعامل معاملة «الحيوانات البشريّة» كما وصف وزير حرب العدوّ أهلها، فأمر بقطع الماء والطّعام والكهرباء عنهم، ليس ليموتوا من الجوع والعطش وحسب، بل ليقتلهم جياعًا وعطاشى علّه يروي غليله من الدّماء!
لا مكان اليوم لوصف ما حصل يوم السّبت الماضي، فقد استنفدت كلّ عبارات الدّهشة والإعجاب والصّدمة، ولم تفِ الطّوفان حقّه، وستبقى الأجيال القادمة تحلّل وتنظّر وتحاول فهم السّرّ وفكّ اللّغز، ولن تنجلي الحقيقة إلّا إذا أفرجت حركة حماس عن تفاصيلها، فما حصل فوق قدرة التّصوّر، باعتبارات الفوارق المادّيّة والمعنويّة بين «إسرائيل» وغزّة، لكنّ اعتبارات الإيمان والثّقة بالله في نصرة المظلوم تتخطّى محدوديّة الحسابات المنطقيّة أيضًا.
والسّؤال الّذي يشغل اللّبنانيين في الصّالونات السّياسيّة والغرف المغلقة وعلى وسائل التّواصل: كيف ستنتهي الحرب، وأين نحن منها؟
لا أحد يملك جوابًا عن السّؤال الأوّل، وإذا أخذنا تصريحات نتنياهو وأعضاء حكومته على محمل الجدّ فهذه الحرب لن تنجلي غبارها إلاّ عن خارطة شرق أوسط جديد قد تطيح بخارطة «سايكس بيكو»، فالزّعيم المهزوم والموتور «بيبي» يهدّد بمسح غزّة عن الخريطة، وما لم يقله صراحة كان قد تمّ عرضه على مصر أيّام مبارك ومرسي، ويقضي بتهجير أهل غزّة إلى شبه جزيرة سيناء، وهذه فكرة إسرائيليّة أميركيّة تقضي بتصفية القضيّة الفلسطينيّة وإلقاء القنبلة الموقوتة، حسب وصفهم، إلى خارج الحدود.
لكنّ سَكرة نتنياهو قد توقضها فِكرة بايدن، في الأخير ليست في النّار ويفترض بأنّه يفكّر بعقل بارد ويعرف خطورة ما ينوي نتنياهو فعله، وقد وصلت رسائل حاسمة بهذا الشّأن في السّرّ والعلن، مفادها: شطب غزّة من المعادلة يعني إشعال المنطقة برمتها.
أمّا عن لبنان، فلم تهدأ الاتّصالات والوساطات الدّوليّة، خصوصًا الأميركيّة، منذ ليل السّبت الأحد الماضي مع المرجعيّات السّياسيّة اللّبنانيّة، وعلى رأسها رئيس مجلس النّوّاب اللّبناني ورئيس حركة أمل نبيه برّي، لتحييد لبنان عن المذبحة الّتي ترتكبها إسرائيل في غزّة، وتطلب بأن يبقى حزب الله على الحياد ليشاهد بصمت ذبح فلسطين ومقاومتها!
الجواب اللّبناني كان واضحًا وحاسمًا ولا لبس فيه، ويتمركز حول نقطتين:
1- لن نسمح بكسر قواعد الاشتباك القائمة منذ تمّوز 2006: النّار بالنّار والدّم بالدّم، ومهما بلغ الغضب الاسرائيلي والدّعم الأميركي والغربي له لن يخيفنا أو يثنينا عن حقنا في الدّفاع عن أنفسنا وحماية مكتسباتنا.
2- المقاومة في لبنان لن تقف موقف المتفرّج على ذبح المقاومة في غزّة وتدمير القطاع فوق رؤوس قاطنيه، وعندما تقترب إسرائيل من هذا الخطّ الأحمر فهذا يعدّ إعلان حرب إقليميّة لن تقتصر مفاعيله على فتح الجبهة اللّبنانيّة، بل يعني تفعيل كلّ جبهات محور المقاومة على قاعدة «وحدة السّاحات» الّتي عمل عليها المحور في السّنوات الماضية.
وسمعت السّفيرة الأميركيّة «دوروثي شيا» من الرّئيس نبيه برّي، حسب زوّاره، كلامًا واضحًا في هذا الشّأن، وهي تعلم بأنّ برّي يعلم ويعني ما يقول، وأنّ كلامه رسْمٌ لحدود الحرب ليس في لبنان فقط بل في غزّة أيضًا، وعلى «إسرائيل» وداعميها البناء على الموقف مقتضاه.
وبيان حزب الله أمس كان واضحًا بتحميل الإدارة الأميركيّة مسؤوليّة الجرائم الّتي ترتكبها «إسرائيل»، وفي هذا البيان رسائل واضحة يفهم الأمريكي أبعادها، ويعرف بأنّ يد المقاومة قادرة على تهديد وجوده ومصالحه في كلّ المنطقة.
أمّا ما نشهده من مواقف سياسيّة داخليّة من الحرب وتداعياتها فثمّة مواقف واضحة وثابتة، مع أو ضدّ، وثمّة مواقف رماديّة على طريقة «الوقوف على التّل» وانتظار جلاء غبار المعركة، وهذه أخطر على لبنان وشعبه وفلسطين وأهلها من المواقف الواضحة في معارضة خيار المقاومة والتّنظير لخيار التّطبيع أو حتّى السّلام مع «إسرائيل».
وفي هذا الإطار كان لافتًا الموقف الّذي نُقل عن الوزير السّابق سليمان فرنجيّة بأنّ «المعركة حسمت في السّاعات الأولى لصالح حماس وهزيمة تاريخيّة لإسرائيل لا يمكنها تعويضها مهما أمعنت في القتل والإجرام»، وكان قدّ غرّد على موقع «إكس» في اليوم الأوّل داعمًا ومؤيّدًا للمقاومة الفلسطينيّة ثمّ غرّد أوّل من أمس معزّيًا باستشهاد ثلاثة مقاومين لبنانيين.
يعلّق مرجع سياسيّ على مواقف فرنجيّة بالقول: يبدو فرنجيّة «مجنونًا» في حسابات السّياسة اللّبنانيّة، فهو ليس مضطرًّا لاستفزاز الأميركيين والغربيين وحتّى بعض العرب في هذه المرحلة، وهو الأولى بالصّمت باعتباره مرشّحًا رئاسيًّا، لكنّه «شجاع» في الحسابات الوطنيّة والقوميّة، فمن يعرف سليمان فرنجيّة يعرف بأنّ مواقفه ليست مرتبطة بحسابات شخصيّة، وهذه هي نقطة قوّته الأبرز الّتي تكسبه احترام الخصوم قبل الأصدقاء، ولو قال غير ذلك أو سكت لكنّا استغربنا واستنكرنا.
ويستطرد المرجع قائلاً: ماذا لو كان فرنجيّة اليوم رئيسًا في ظلّ ما تشهده المنطقة من متغيّرات قد تعيد رسم الخرائط الجغرافيّة، وهي حتمًا ستعيد رسم خرائط النّفوذ السّياسي والجيوسياسي؟! أيّ غطاء سياسيّ ومظلّة أمان كان سيقدّمها للمقاومة، وأيّ دور وطنيّ وقوميّ كان سيؤدّيه عربيًّا ودوليًّا في هذا الصّراع؟!
يختم المرجع السّياسيّ بالقول: إنّ من تصرّف بالنّكد والنّكاية وانقلب على حلفائه في الملفّ الرّئاسي لا يملك أفقًا سياسيًّا، ولا يرى أبعد من زواريب منطقه الطّائفيّ، وإذا كان يظنّ بأنّ الرّئاسة في لبنان تفصيلٌ داخليٌّ، فهو في أحسن الأحوال واهم، وفي أسوئها متآمر.
وعندما تضع الحرب أوزارها وقد تبيّن لفريق المقاومة الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الثّقة والثّبات والوطنيّة، ستبنى تحالفات جديدة على أسس جديدة، وجلّ مَن لا يخطئ..