أزمة النزوح تُعالج بمقاربات فاعلة لا بخطابات منفعلة
استفاق المسؤولون اللبنانيون اليوم على أزمة النزوح السوري بعد ثبات عميق، النَّقزة التي أفاقتهم من غفلتهم تتمثل في تسارع وتيرةِ ارتفاع أعداد المُتسللين يوميًّا إلى لبنان في الآونة الأخيرة، ما جعل اللبنانيين يتوجسون خيفةً من الارتفاع المضطرد لأعداد النازحين السُّوريين في لبنان، والتي يُقدر بعض المتخصصين بالإحصاءات أن نسبتهم قاربت الـ 40% من عدد اللبنانيين المقيمين في لبنان، وهذا الأمر، في حال صحته، ينطوي على مخاطر وجوديَّة على الكيان اللبناني.
وجود أعداد مرتفعة من السوريين في لبنان ليس أمراً طارئاً ولا بمستجد، بل هو ظاهرةٌ قديمةٌ أي منذ استقلال لبنان، وبقيت مُستمرَّة لغايَة اليوم، وإن بوتيرة مختلفة عن ذي قبل وفق الظُّروف السياسيَّة والاقتصاديَّة والمعيشيَّة في كلتا الدَّولتين، وإن لم يسبق أن وصلت إلى هذا المُستوى المرتفع. لقد تسبَّبت التَّقلبات السياسيَّة الحادَّة التي شهدتها سوريا بعد نيلها الاستقلال في هروب أعداد كبيرة من الموالين للحكَّام الذين أطيح بهم بانقلابات عسكريَّة، وأولئك المناوئين للإنقلابيين، وكانوا يتوزَّعون ما بين نشطاء سياسيين ورجال فكر، ومتموّلين ممن يخشون على رؤوس أموالهم من المصادرة أو تجميدها في المصارف السُّوريَّة. هذا بالإضافةِ إلى أن لبنان كان ولم يزل محط أنظار اليد العاملة السُّوريَّة، وخاصَّة ممن يستهويهم العمل في الزِّراعة وورش البناء، وخدمة المرافئ وغيرها من الأنشطة التي لا تَحتاج إلى أيادٍ عاملةٍ مُتخصِّصة، والدَّافع الأساس هو الكسب المادي، لكون أجور العمال في لبنان تفوق ما يتقاضاه مثلاؤهم من أجور في سوريا.
يغلب على النُّزوح السُّوري في لبان الطَّابع الطَّوعي، ونادرةٌ هي حالات النُّزوح القسري، لكونه لطالما كان لسوريا باعاً طولى في لبنان، تمكّنها من الوصول إلى المعارضين السياسيين والنَّيل منهم، وإن وجدَ بعضٌ من الناشطين السياسيين السوريين في لبنان، فلكونهم يرون فيه واحةً للحريَّات التي يفتقدونها في بلدهم، بحيث يتاح لهم فرصةً كافيةً لممارسةِ أنشطتهم الفكريَّة ونشر مؤلفاتهم والتعبير عن مواقفهم سواء في ما ينشرون من مؤلفات سياسيَّة أو من روايات ومقالات يعبّرون فيها عن مواقفهم وتطلّعاتهم السياسيَّة، ويتابعون ما يحصل على السَّاحتين الدَّوليَّة والعربيَّة عبر المنشورات السياسيَّة في لبنان، هذا عدا عن العيش الرغد ومتابعة مختلف الأنشطة الثقافيَّة والتَّعليميَّة والفنيَّة والترفيهيَّة.
تفاقم ظاهرة النُّزوح السوري في لبنان جاء مع بدايةِ العقد المنصرم، وبالتَّحديد منذ العام 2011 حيث انتفض الشَّعب السوري على النِّظام البعثي القابض على مقاليد السَّلطة منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزَّمن، مطالباُ بالحريَّة والكرامة والانعتاق من الاستبداد السُّلطوي، وعلى الرَّغم من أن الانتفاضة الشَّعبيَّةَ في سوريّا بدأت سلميَّة إلاَّ أنها قوبلت بعنف مفرط، الأمر الذي أدّى مع مرور الوقت إلى تحولها لثورة مُسلَّحة بعد أن تمكَّنت الجماعات المُنتفضة من الحصول على أسلحة ودعم معنوي وسياسي ومالي وعسكري من دول عربيَّة وغربيَّة؛ في المقابل لقي النِّظام القائم دعماً من جهات أخرى مصنَّفة بقوى الممانعة، لم تكتفي بتوفير الدَّعمِ إنما انخرطت ميدانيًّا في الصراع وكان لها الدَّور الأبرز لحسم العديد من جولات التَّقاتل، وقد نجح الاتحاد الروسي في قلب المقاييس بتدخُّله لجانب النِّظام ضدَّ الشَّعب، بعد أن عجزت إيران وبعض التَّنظيمات المُسلَّحة العاملة تحت كنفها من حسم المعركة طوال عشر سنوات من القتال. وقد اسفرت تلك الحروب عن هدم العديد من المناطق السَّكنيَّة وتدمير بناها التَّحتيَّة، وقتل مئات آلاف المواطنين وتهجير الملايين من المواطنين السوريين داخل وخارج سوريا. وكان للبنان الحصَّة الأكبر منهم لسهولةِ العبور إليه عبر ممرات بريَّة غير شرعيَّة، منشرة على امتداد الحدود البريَّة التي يبلغ طولها قرابة الـ 375 كلم.
الخطيئة الكبرى التي ارتكبها المسؤولون اللبنانيون في تعاملهم مع حركة النزوح السوري تتمثَّلُ في عدم تقنينهم وتنظيمهم لهذا النُّزوح على غرار ما عُمل به في دول أخرى كتركيَّا والأردن، حيث أقيمت مخيمات خصِّصت لإيواء النازحين بعيداً عن الأماكن المأهولة. السُّلطاتُ اللبنانيَّةُ سيراً على عادتها وقفت موقف المتفرج مما يحصل على أرضها، وأحياناً تعاملت مع المسألة بفوضويَّةٍ مرتجلة، بحيث اقتصرت المقارباتُ على ردَّات فعل غير مدروسة وغير منسَّقة، الأمر الذي مكَّن العديد من النَّازحين من التَّغلغُل داخل المدن والبلدات والقرى اللبنانيَّة من أقصى جنوب لبنان إلى أقصى شماله، وأقاموا فيها حيث شاؤوا، ومن تبقّى منهم تم إيواؤهم في مُخيَّمات أعدَّتها لهم منظماتٌ دوليَّة ومحليَّة، يناهز عددها الـخمسة آلاف مخيَّم، غالبيَّتها في محافظتي البقاع والهرمل، وعكَّار.
على خلاف التَّوقعات، صمد النِّظام السوري واستطاع، إلى حدٍّ كبير، أن يخمد الثَّورة الشَّعبيَّة، وفعلاً خفَّت وتيرة المعارك التي كانت دائرة في معظمِ محافظاته، ونكاد نقول أن الأعمال القتاليَّةِ قد تلاشت في غالبيَّة الجبهات التي كانت مشتعلة، ولكن سيل تسرُّب النازحين خلسة لم يتوقف بعد، بل ارتفعت أعداد الداخلين خلسة يوميًّا خلال الأشهر القليلة المنصرَمة إلى أرقام قياسيَّة. ورغم ذلك يمكننا القول أن النِّظام السُّوري تنفس الصُّعداء بمجرد وقف العمليَّات العسكريَّة، وأنه مرتاحٌ لما أسفر عنه النُّزوحُ ويسفرُ من تغيير ديمغرافي داخلي بل يراه في صالِحِه؛ وأنه يسعى للتَّحول من موقف المُتلقي إلى موقفٍ مبادر؛ رغم أن المُعطيات المستقاة من أرض الواقع توحي بأن سوريا آيلة إلى التقسيم عاجلاً أم آجلا؛ وهو ما انفك يعمل على استغلالِ تبعاتِ النُّزوح الاقتصادية والماليَّة والأمنيَّة على الدُّول التي استقبلت النَّازحين ولم تزل تأويهم، بغرضِ تحقيق مكاسب سياسيَّة وماليَّة بعد أن أضحت معانات تلك الدُّول باديةً إلى العلن.
ما من شك أن لبنان هو الدَّولةُ الأكثر مُعاناة من وطأة النُّزوح السُّوري، لأسباب عدَّة، أولها سوء التَّنظيم وفوضويَّة انتشار النازحين، وتفاقم الأعباء الاقتصاديَّة والماليَّة والمَعيشيَّة والأمنيَّة التي تفوق قدرات لبنان الذاتية، ويليها عدم التزام المُنظَّمات الدَّوليَّة التي تعنى في شؤون النازحين والعاملة في لبنان بالشَّفافيَّة في مقاربتها لهذا الملف، ولتجاهلها مفاهيم السِّيادةِ الوطنيَّة وإصرارها على التعاون مع منظمات المجتمع المدني بدَلاً من التَّعاون والتَّنسيق مع الجهات الرَّسميَّة بذريعةِ فساد الأخيرة، في الوقت الذي لا يخفي المسؤولون المعنيون خشيتهم من ارتباط العديد من تلك المنظمات بأجندات خارجيَّة.
يتحمَّل المسؤولون اللبنانيون كافَّة تبعات ما آلت إليه مسألةُ النازحين في لبنان لأسباب مختلفة، أهمها: انعدام ثقة المجتمع الدَّولي بهم نتيجة روائح الفساد التي تفوح منهم ومن حولهم، ولاستغلال البعض منهم لمسألة النُّزوح السُّوري لتحقيق منافع ماديَّة جرَّاء تبنّي أرقام وهميَّة للنِّازحين، وكلفة إيوائهم وتغذيتهم وتطبيبهم وتعليمهم، والتَّلاعبِ في فواتير ما يقدَّم لهم من معونات عينيَّة، والأخطر من كل ذلك لتجنّب العديد منهم التَّطرُّق لقضيَّة النُّزوح بصراحة وبالمباشر لتفادي ردَّاتِ الفعلِ على مواقفهم تجاه جهات دوليَّة أو إقليميَّة أو عربيَّة وخصوصاً مع النِّظام السُّوري، وهذا ما يبرِّرُ ندرةَ المواقفِ المتجردة والشَّفافة والمبنية على خلفيَّةٍ وطنيَّةٍ بحتة، الأمر الذي سهَّل عمليَّةَ تهميش السُّلطاتِ الرسميَّة اللبنانيَّة من قبل المنظَّمات الدَّوليَّة وإدارتها للملف من دون العودة إليها.
يتَّفق الجميع في لبنان على أن النُّزوح السُّوري ينطوي على مخاطر كيانيَّة بنيويَّة وجوديَّة لا تقتصر على تبعاته الاقتصادِيَّة والمعيشيَّة والماليَّة، بل تتعدّى ذلك لتطال الإخلال بالتَّوازنات الديمغرافيَّة القائمة فيه، وبالأوضاع الأمنيَّة لتنامٍ معدَّلات الجريمة بكافَّةِ صورها وأشكالها وفي طليعتها جرائم العنف والاتجار بالمخدرات. ولكنَّهم يختلفون حول من ينبغي أن يتحمّل المسؤوليَّة عن هذه الأزمةِ الشَّائكة.
يرى البعض أن النِّظام السوري القائم وأدائه التَّسلّطي هو المسؤول عن هذه الظَّاهرة بكل تبعاتها، وهو من يضع العراقيل في وجه الحلول، لكونه يستغلَّها كورقةٍ سياسيَّةٍ رابحة لحل أزماته وتحقيق مصالحه على كل المستويات الدَّوليَّة والعربيَّة وحتى الثنائيَّة (أي بينه وبين الدُول المعنيَّة بالنزوح)، فمن خلال هذه الورقة يضغط على الغرب لاستعادة ما انقطع من علاقات، وإلغاء العقوبات التي فرضت عليه، كما يضغطُ على الدُّول العربيَّة لإعادة ترتيب وضعه عربيًّا ولتمويل ما يسميه بإعادة الإعمار بربط عمليَّة عودة النازحين بتهيئة البنى التحتية قبل عودتهم؛ كما يستغلُّها في وجه الدُّول المجاورة التي تعاني من أزمة نازحين، لضمان مَصالحه معها، والضَّغط على الدُّول الأوروبيَّة التي تخشى تمدد النزوح إليها لفتح قنوات تفاوض مباشرة مع النِّظام وليس بالواسطة. أما بالنِّسبة للبنان فلضمان الامتيازات التي كان يوفرها له وجوده العسكري والأمني فيه.
لا يخفي البعض توجُّسَه من أن تكون موجات الدُّخول خلسة إلى لبنان قد جاءت ردًّا على إعلان المملكة العربية السُّعوديَّة تأجيل فتح سفارتها في دمشق وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا إلى أجل غير مسمى، نتيجة تخلف النِّظام السوري عن الإيفاء بالتعهدات التي التزمَ بها قبل إعادة سوريا إلى الحاضنة العربيَّة.
ثمَّة ما هو أخطر من تبعاتِ النُّزوح المنوّه عنها، ويتمثَّلُ في ارتفاع حِدَّةِ النَّبرات العُنصُريَّة التي ترشح من أفواه بعض المسؤولين الذين يبالغون في ادّعاء الحرص على الوطن والسِّيادةِ اللبنانيَّة، في الوقت الذي كان ولم يزل يتوجَّب عليهم القيام بالكثير من الأفعال بدلًا من المواقفِ والأقوال والشِّعارات التي يطلقونها. لأن النَّبراتِ العالية المتعنصرة تولدُ نعرات عنصريَّة مقابلة، وتودي إلى صراعاتٍ نحن بغنى عنها، وليس من مصلحة الشعب اللبناني الذي قدَّم الكثير للأخوة النازحين السُّوريين بأن يظهر العداء لهم بعد كل تضحياته في سبيلهم، بإثارة أحقاد مُتبادلة ما بين شعبين شقيقين متجاورين مُتـآخيين.
المطلوب إذن البُعد عن الانفعالات والمزايدات، والاكتفاء بطرح أفكار واقعيَّة، والسَّير بحلول عمليَّة قابلة للتَّطبيق على أرض الواقع وفق المعطيات الدَّوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة في كل من سوريا والدُّول التي تأوي نازحين على أراضيها. وكل ذلك لا يمكن أن يتم إلاَّ بالبناء على معطيات بيانيَّة تبيّن أعداد السُّوريين المتواجدين في لبنان بصفة مشروعة وأولئك الذين دخلوه خلسة، وحقيقة التَّوصيف التي تنطبق على كل منهم، وتصنيفهم ما بين مقيم شرعي، ولاجئ سياسي ونازح لأسباب اقتصاديَّة أو معيشيَّة، أو خلاف ذلك، كما تبيّن انتشارهم الجغرافي في لبنان، وتحدِّد المناطق التي نزحوا عنها من داخل الأراضي السُّوريَّة، ومعرفة ما إذا كان لم يزل هناك من أسباب حقيقة تحول دون عودتهم إليها.
تقتضي الموضوعيَّة منا القول أن اللاجئين السوريين ليسوا بأحسن أحوالهم، وليسوا هم من تجب مساءلتهم أو الاقتصاص منهم لما آلت إليه الأوضاع بنا وبهم، فالكثير منهم استغلَّت أوضاعهم لدفعهم للإنخراط في سلوكيات إجراميَّة، فمنهم من انخرط بأنشطة مخدرات، ومنهم من انخرط بالاتجار بالبشر كتهريب المواطنين عبر الحدود، أو في أعمال الدَّعارة المنظَّمة، وتزييف العملات وترويجها، هذا عدا عن الشبكات الإجراميَّة التي تمتهن السرقة والنشل وغيرها من المظَّاهر الإجراميَّة الفرديَّة. وربما جُنِّد العديد منهم للعمل لصالح أجهزة مخابرات معاديَّة أو العملِ لصالح النِّظام السوري على حساب لبنان.
إن التَّعامل مع أزمة شائكةٍ كأزمة النُّزوح السوري في لبنان، تتطلَّب أولاً الإقرار بفشل المقاربات الإرتجاليَّة التي اتبعت حيالها، وأن الحل لا يقتصر على تشديد المراقبة على الحدود البريَّة، وإلهاء الجيش والقوى الأمنية بلعبة الفأر والهر بملاحقة وتوقيف من يحاولون الدُّخول خلسة، ولا بإصدار البلديَّات لبيانات استعراضيَّة، ولا بتحريض الأهالي على التَّهجم على الأماكن التي يقيم النازحون فيها، ولا بالتَّعرض لهم لفظاً أو فعلاً أثناء تجوالهم على الطُّرقات أو عبر وسائط التَّواصل الاجتماعي، إنما بجمع المعلومات عنهم وتحليلها واستغلالها للوقوف على حقيقة أوضاعهم، ولتنظيم إقامتهم، ولتدارك تقويض بنى الاقتصاد اللبناني بمزاولتهم نشاطات اقتصاديَّة على نحو غير مشروع، أو باستنزاف خزينة الدَّولة، وبالضَّغط على المجتمع الدَّولي بإيوائهم في أماكن آمنة داخل وطنهم وتقديم ما يلزم من مساعدة إنسانيَّة لهم، وكل ذلك يتطلَّبُ بلورةَ رؤيةٍ وطنيَّةِ جامعةٍ تترجمُ بخطة استراتيجيَّة متكاملة قابلة للتطبيق على أرض الواقع وفق الإمكانات المتوفرة والظُّروف الدَّولية والإقليميَّة والمحليَّة السَّائدة.