سياسات ترفع الانتاجية
بينت الحرب الأوكرانية أن هنالك مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية. هنالك من يبني قوته أو مصالحه على أن الغرب ينحدر وأن العالم انتقل من مرتكز على قوة اقتصادية واحدة الى آخر معتمدا على قوى ثلاث أو أكثر. لا تشير الوقائع الى صعود روسيا والصين لمنافسة أميركا اقتصاديا وماليا ونقديا. لكن كلما طالت الحرب الأوكرانية كلما تغير العالم أكثر ليس في نوعية الانتاج وانما في توزعه على الدول والقارات. اذا عاد الرئيس ترامب الى الحكم، يمكنه كما قال أن ينهي الحرب الأوكرانية خلال 24 سنة. ممكن، اذا استسلم احد الفريقين أو مثلا اذا أعطيت أوكرانيا كهدية للرئيس بوتين أو اذا عادت العلاقات الحميمة بين القيادتين الجارتين. في كل حال، أوروبا موحدة سياسيا مع أوكرانيا، لكن ليس شعبيا كما تشير اليه انتخابات عدة في بعض الدول. أوروبا منهمكة فعلا بحاجتها الى الطاقة، كما بتضرر مواطنيها من التضخم المعيق للعيش النوعي الكريم للطبقات الوسطى.
عامل مهم جدا مهمل في الدول الناشئة وخاصة في النامية هو الانتاجية. الدول الصناعية تنعم عموما بمستوى انتاجية عال نتيجة جهود كبيرة في القطاعين العام والخاص. الانتاجية هي قيمة انتاج الفرد الواحد أو انتاج وحدة رأس المال. رفع الانتاجية يؤدي الى المزيد من الثروة والبحبوحة في الاقتصاد. تنظر الشركات المتطورة الى انتاج العامل الواحد أي انتاجيته لمعرفة درجة نجاحها في تأمين المعيشة المطلوبة للمواطن. مجموع الانتاج مهم، لكن انتاج العامل الواحد أهم ويؤدي الى اتخاذ قرارات مثلا بزيادة الأجور أو زيادة عدد العاملين أو الاثنين معا.
ما يبقي الولايات المتحدة الاقتصاد الأول في العالم ليس عدد السكان ولا حكمة مختلف الرؤساء ولا فعالية الكونغرس وغيرهم. ما يبقي أميركا الأولى هي الانتاجية المرتفعة العائدة الى القوانين والتمويل والسوق الواسعة التي تسمح للطموح الفردي بأن يتفجر انتاجا ونجاحا. ما زال الناتج المحلي الاجمالي الأميركي يشكل 25% من ناتج العالم و58% من ناتج دول مجموعة السبع. نتذكر جميعا في العقود الماضية كيف انتشرت الدراسات التي توقعت الفوز الاقتصادي لليابان على الولايات المتحدة وهذا ما لم يحصل. الناتج الفردي الأميركي هو 50% أكبر من الياباني بعد ان كان 17% أعلى فقط في العقود الماضية. أميركا تبقى متفوقة اقتصاديا بالرغم من كل العوائق والمشاكل والصراعات الداخلية.
لكل رئيس أميركي مشروعه الاقتصادي الذي يسعى لتطبيقه خلال الفترة الرئاسية أي 4 سنوات. واذا جدد له كما يحاول الرئيس بايدن تحقيقه، تكون له 8 سنوات وهي كافية لتقييم انتاجية أي رئيس في أي دولة. من مبادئ الرئيس بايدن محاربة البطالة وتحقيق النمو، لكن الجديد هو أن سياسته الخارجية هي سياسة الطبقة الوسطى أي تبنى العلاقات الخارجية لادارته على ما يفيد الأكثرية الأميركية العاملة والمنتجة. في نفس الوقت، يؤشر بايدن مرارا الى توصيته للأميركيين بأن يشتروا السلع والخدمات الوطنية وليس استيرادها. هذا سهل فهمه داخليا لكن يصعب قبوله دوليا اذ يؤشر الى رغبة انعزالية أميركية مستمرة منذ ترامب. في كل حال، توضع السياسات أحيانا ليس لصوابيتها وانما لجذبها الناخبين في فترات انتخابات تنافسية ودقيقة.
أما الملك البريطاني الجديد شارلز الثالث فيبدأ مهمة صعبة كملك حيث التحديات الداخلية كبيرة كالخارجية. عندما استلمت والدته العرش كان يضم 32 دولة تحت قيادتها، أما اليوم فالعدد تدنى الى 14 ومن المرجح أن ينخفض مع رغبة الدول في التحول الى جمهوريات. من الممكن أن تحاول أستراليا مجددا التحول الى جمهورية كما أن تسعى كندا لذلك. أما التحديات الداخلية، فهي أخطر وأهم للبريطانيين اذ تطرح رغبة اسكتلاندا في الانفصال وهي فشلت في ذلك وربما تنجح مستقبلا. هنالك رغبة بعض الايرلنديين الشماليين في الانضمام الى ايرلندا نفسها علما أن المذهبية تبقى الحاجز الأهم. شعبية شارلز مرتفعة لكن التحدي الكبير هو عدم تحول المملكة المتحدة الى اتحاد قسمين فقط هما انكلترا وويلز. الوضع دقيق للملك الجديد والتحديات كبيرة علما أن موضوع الانتاجية هو مسؤولية الحكومة وبالتالي اشراف الملك يبقى غير مباشر.
تسعى الدول النامية والناشئة الى رفع انتاجيتها عبر استعمال الاستشارات التقنية العالمية لنقل اقتصاداتها الى مراحل متقدمة عبر طاقة نظيفة ونظام صحي فاعل وتحول رقمي وغيرها. للاستفادة من شركات الاستشارات، يجب أن تسعى الدول لتكوين طاقات داخلية كبيرة تكمل عمل المستشارين وتحل مكانهم تدريجيا. الاستشارات لا تكون عموما أبدية بل مؤقتة ومتخصصة تبعا لحاجات كل دولة. قدر الحجم المالي للاستشارات عالميا في 2021 بما بين 700 و900 مليار دولار سنويا. دول مجلس التعاون الخليجي تنفق 4 مليارات دولار على الاستشارات من بينها 2.1 مليار للسعودية وحدها. عموما هنالك دول تستفيد الى أقصى الحدود من استشاراتها وتبني قدراتها الذاتية وأخرى تبقى محتاجة لها لعدم قدرتها على تحويل نفسها الى متقدمة فاعلة.
ما يؤثر مباشرة على الانتاجية هي طبيعة العمل والقوانين كما مدة العطل التي تسمح بتجديد خلايا الجسم والعقل. على مجتمعاتنا أن تختار اليوم بين العمل كانسان أو التحول الى ماكينة تحركها الآليات الرقمية والاصطناعية. التطور التكنولوجي العالمي الحالي يؤدي، اذا استمر أو ترك من دون رقابة، الى تحول الانسان الى ماكينة تعمل ساعات طويلة دون راحة. كل تطور اقتصادي عالمي يفرض التعاون بين العامل ورب العمل والقطاع العام كي يبقى العمل انسانيا. الانتاجية مهمة جدا ضمن حدود أنسنة العمل وبقاء العامل والموظف يعمل ضمن معايير الاحترام. من أهم المعايير ابقاء العطل الاسبوعية كما السنوية. العامل الألماني يحصل على أعلى أيام فرص سنوية ويبقى الأعلى انتاجية. فلنتعظ!