هل يخضع الديوان ويهب البريد للفرنسيين؟
بكلّ الطرق يحاول وزير الاتصالات جوني القرم وهب قطاع البريد لمدّة 9 سنوات لتحالف شركة Merit invest – Colis Privé. في البداية كان إصراره تقنياً وضمّنه في دفتر الشروط وإجراءات المزايدة، لكنه إزاء تقرير ديوان المحاسبة الصادر منذ أسبوعين، والذي يقول فيه صراحة إن المزايدة مفصّلة على قياس الشركة الفائزة – وهو أمر سبق أن أشارت إليه هيئة الشراء العام في تقرير مماثل – لجأ إلى خطوات سياسية شملت السؤال في رئاسة مجلس الوزراء عن إمكان تجاوز تقرير الديوان وإقرار نتيجة المزايدة في مجلس الوزراء، لكنّ الإجابة دفعته إلى زيارة رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي يُحسب عليه رئيس الديوان، فتلقّى نصيحة بتقديم طلب «إعادة نظر». وثمة من يفسّر سعي القرم المحسوب على تيار المردة، لتمرير المناقصة لمصلحة الشركة الفرنسية الفائزة، في سياق النشاط الرئاسي. علماً أن رئيس تيار المردة سليمان فرنجية ينفي أي علاقة له بكل ما يقوم به القرم في وزارته.
منذ انفجار الأزمة في لبنان، تبدي فرنسا اهتماماً بالسيطرة على كل القطاعات المربحة. وها قد أتى دور البريد بعد انتهاء عقد «ليبان بوست» المشؤوم. فالشركة التي سيلزّمها القرم،Merit invest هي لبنانية إنما متحالفة مع شركة فرنسية بالكامل اسمها Colis Privé التي لديها رخصة توزيع بريد في فرنسا وليست لديها مكاتب بريدية. وMerit invest مملوكة من رودولف سعادة اللبناني الذي أسّس شركة CMA-CGM الفرنسية للنقل البحري والتي سبق أن فازت بصفقة تلزيم تشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت، ولديها حصّة في عقد تشغيل محطة الحاويات في مرفأ طرابلس. ومن أبرز الهدايا التي حصل عليها الفرنسيون، هي تلك التي تمّت عبر شركة «توتال» وحجزت موقعاً أساسياً لهم في عملية استخراج النفط من الشاطئ اللبناني، وربما لاحقاً التفاوض على طرق تصديره نحو أوروبا.
إصرار سعادة على الفوز بهذه المناقصة متصل بتوسيع عمليات الشركة في الاستحواذ على سلّة عقود في النقل الجوي في عدد من الدول، إلى جانب النقل البحري، والانخراط في أعمال التوزيع داخل الدول. لكنّ الشركة أجرت مناورة احتيالية في البداية، للإشارة إلى أنها لا تبدي اهتماماً كبيراً بالسوق اللبنانية، فسحبت دفتر الشروط ثم أصدرت بياناً تقول فيه إنها غير مهتمّة بالمشاركة في المزايدة. لكن ما حصل كان بالعكس تماماً ويوحي بأن الشركة «موعودة» بالفوز. وهو الأمر الذي أشار إليه تقرير ديوان المحاسبة الذي صدر أخيراً وفنّد فيه مخالفات التلزيم معتبراً أن الصفقة انطوت على «تبسيط وتسهيل وتهوين» المعايير بهدف إتاحة المجال أمام العارض الفرنسي للفوز عبر تفصيل دفتر الشروط «على مقاس مؤهّلاته ومهنته»، ويقدّر الديوان أن تبلغ قيمة الخسارة المترتّبة على الخزينة العامة نتيجة هذا التلزيم بما قيمته 5 ملايين دولار، إن لم يكن أكثر. وأوصى التقرير بتعديل دفتر الشروط لإلغاء هذه البنود مطالباً بتعديل عدد من البنود في دفتر الشروط الجديد بهدف حفظ حقوق الخزينة (راجع الأخبار).
وكان تحالف شركتَي Merit invest – Colis Privé قد شارك في الجولة الثالثة من المناقصات بعدما أجّل قرم المزايدة الأولى بسبب عدم تقدّم أي عارض. ثم ألغى نتيجة فوز شركة Merit Invest في المرة الثانية تحت وطأة تقرير هيئة الشراء العام التي أوصت بعدم السير بها لأنها تلحق الضرر بالمال العام وتقلّص حصة الدولة. أما في المرة الثالثة، فلجأ القرم إلى حيلة جديدة وقرّر إجراء تعديلات على دفتر الشروط تتناسب مع مواصفات ومؤهّلات هذا التحالف الفرنسي الذي لا تدخل خدمة البريد ضمن اختصاصه. وأصبح إصرار القرم على تلزيم هذه الشركة تحديداً، أكثر وضوحاً عندما حاول استباق تقرير ديوان المحاسبة وعرض نتيجة المزايدة على مجلس الوزراء لاستصدار قرار يلتفّ فيه على أي قرار قد يصدر عن الديوان.
لم تسر رياح القرم كما يشتهي. فمجلس الوزراء قرّر أن ينتظر تقرير الديوان، لذا عمل القرم بعد صدور التقرير سلباً بوجه التلزيم، على خطين: حاول في رئاسة مجلس الوزراء جسّ نبض إمكانية القفز فوق تقرير الديوان وتمرير النتيجة في جلسة حكومية، إنما لم يحصل على جواب إيجابي حاسم، لذا انتقل إلى الخط الثاني وزار رئيس المجلس النيابي وناقش المسألة معه باعتبار أن الديوان محسوب على عين التينة. تلقّى القرم نصيحة من بري بتقديم طلب «إعادة نظر» لدى الديوان. وبالفعل هذا ما فعله القرم، إذ إنه أرسل كتاباً إلى رئيس الهيئة الناظرة في الملف القاضي عبد الرضا ناصر، يردّ فيه على تقرير الديوان، ثم حضر أمام القاضي يوم الخميس الماضي للاستماع إليه. وعلمت «الأخبار» أن القرم برّر عدم قيام الوزارة بدراسة تقديرية لمشروع بهذا الحجم ولفترة تمتد على مدى 9 سنوات، بوجود شغور في مديرية البريد وعدم توفر المال اللازم للاستعانة بشركة استشارية لتنفيذ الدراسة.
في تقريره الأخير اعتبر ديوان المحاسبة أن الصفقة مفصّلة على قياس الشركة الفائزة
أما في ما يتعلّق بتلزيم القطاع للعارض الوحيد، فاستند إلى المادة 25 من قانون الشراء العام التي تسمح له بذلك، كذلك الأمر بالنسبة إلى مهلة الإعلان وتقديم العروض. من جهة أخرى، أشار وزير الاتصالات إلى أن تعديل دفتر الشروط راعى ملاحظات رئيس هيئة الشراء العام جان العلية وكان هدفه السماح للشركات غير المختصّة بخدمة البريد بالمشاركة وخلق منافسة بين الشركات اللبنانية. علماً أن ذلك لم يحصل، فوحده سعادة هو من شارك في المزايدة.
انطلاقاً من كل ما سبق، طلب الديوان الاستماع إلى رئيس هيئة الشراء العام اليوم الخميس لمطابقة إفادة العلية بإفادة وزير الاتصالات حتى يعمد بعدها إلى تقييم الموضوع والخروج بقرار، سواء كان إيجابياً بقبول إعادة النظر أو سلبياً برفضها. وتقول المصادر في هذا السياق إنه جرت العادة ألا يتم قبول إعادة النظر والتراجع عن قرار إلا في حال ظهور مستجدات من شأنها تبديل أو تغيير الواقع. في ما عدا فإن أي تراجع من قبل الديوان بعد صدور تقرير بهذه الجرأة والحدية وبالإشارة الواضحة إلى تفصيل دفتر الشروط على قياس العارض، سيُفقِد الثقة في هذا الجهاز ويضعه في مهبّ التجاذبات السياسية.