المساعي الخارجية في مجابهة قصص الطامحين للرئاسة اللبنانية
مع انتهاء ولاية الرئيس السابق «ميشال عون» في شهر تشرين الأوّل من العام 2022، لم ينجح النواب خلال 12 جلسة انتخاب من انتخاب خلفاً له، حيث يفقد نصاب الثلثين. لكي نفهم السياسة اللبنانية، علينا قراءة قصّة ألف ليلة وليلة، والاستعانة بأهم الفلاسفة من حيث المكان والزمان، فنسافر عبر الزمن إلى زمن آخر قبل ولادة لبنان الكبير، فلا أرسطو ولا شيشرون (ماركوس توليوس سيسور) المولدين قبل ميلاد السيد المسيح، ولا مونتسكيو ولا لوك، ولا إيمانويل كانط ولا ماكس فيبر، ولا ديفيد هيوم ولا مايكل هارينجتون، كموفدين يقدمون المفتاح من خلال مساعيهم، والّذي يسمح لنا في فتح أبواب حانات التفاسير الطائفية للدستور اللبناني، ومن أجل تذليل العقبات التي يضعها الطامحين من الطائفة المارونية الكريمة لتبوء كرسي رئاسة الجمهورية اللبنانية.
ونقتبس ما جاء في رواية «النبي» لـ «جبران خليل جبران»، حيث إنّ الطوائف تمثّل الأنهار والجداول، وللبنان يمثّل البحر: «أنّت أيها البحر العظيم الّذي فيك وحدك يجد النهر والجدول سلامتهما وحريتهما. فاعلم أنّ هذا الجدول لن يدور إلّا دورة واحدة بعد، ولن يسمع أحد غريره على هذا المعبر بعد اليوم، وحينئذٍ آتي إليك، نقطة طليقة إلى أوقيانوس طليق». فمهما دارت مناورات الطامحين الرئاسسيين ستنتهي في البحر العظيم.
وبما أن الأطر السائدة في حكم الجمهورية اللبنانية لم يتم تصميمها على أساس التكوين التاريخي المجتمعي للولايات ولجبل لبنان قبل إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. فمن الصعب ربط أسس التكوين السكاني الصحيح مع ما أسّسه المستعمر الفرنسي للبنان، وبالتالي كانت الأزمات والاحتجاجات والتصادمات وقبلها الحرب الأهلية هي السمات المميزة لقصّة تطورنا الدستوري، وبالتالي حكم لبنان. حيث نسمع اليوم الدعوات إلى الفدرالية، فمن قادر على أنّ يتحمّل اليوم هكذا نقلة التي قد تهدف إلى إعادة النّظر بالنظام السياسي اللبناني (مع العلم أنّ هذه الدعوات قد طرحت في بدايات الحرب الأهلية، وانتهينا بإتفاق الطائف)، دون إغفالنا الأجزاء المثيرة من قصّة تطوّرنا الدستوري والسياسي، بمفاهيم أحرجت المفاهيم الأوروبية وجدلية الأنظمة السياسية الحاكمة.
في حين أنّ الدولة الحديثة في فرنسا أسّست على أفكار الكثير من كبار الفلاسفة السياسيين والفقهاء الدستوريين، حيث إنّهم بنوا نظاماً دستورياً متميّزاً توّج بالجمهورية الخامسة الفرنسية عام 1958، مع كل هذا الإرث الفلسفي والسياسي لم يستطع الفرنسيين من خلال مساعيهم من فكّ أحجية الأزمة اللبنانية ومنها انتخاب رئيس للجمهورية، حيث اصطدمت هذه الجهود بطموحات أقطاب الأحزاب المسيحية.
لم تصل جهود الموفد الفرنسي «جان إيف لودريان»، كوسيط لحلّ أزمة الشغور الرئاسي في لبنان، بعد ثلاثة أشهر من بدء مهمّته كموفد مكلّف من قبل الرئيس الفرنسي «إيماويل ماكرون». حيث دعا إلى إيجاد «خياراً ثالثاً» لأزمة عدم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية.
ويعود ذلك إلى أنّ الأحزاب اللبنانية بنوا نمطاً من العلاقات مع الدول الخارجية تسمح لهم من الارتماء في أحضان أيّ طرف خارجي في حال كانت تدخلات هذه الجهة تحاكي طموحاتها في إقصاء خصومها الداخليين. وبمجرد دخول لبنان في أزمة سياسية، على الدول العربية إعادة بناء اتفاق جديد للحكم بأسس أعمق من الاتفاق الّذي سبق، إلاّ أنّها لا تصل إلى التطبيق الفعلي لاتفاق الطائف.
إن اهتمامي بالمبادرات الخارجية من أجل حلّ الأزمة في لبنان، هو اهتمام كاتب وباحث سياسي وبالدرجة الأولى مواطن، يراقب عملية ترميم لنظام طائفي نخره السوس حتى وصلت الطائفية إلى التدخّل في وظائف الفئة الخامسة بحجة التوازن الطائف هذا على سبيل المثال. ويفترض الدستور اللبناني وجود مواطنين يتمتعون بحقوقهم وحرياتهم، خصوصاً مبدأ المساواة، حيث تمثّل دولة المواطنة أهمّ طموحاتهم، ويكون ذلك بفهم سليم للمثل العليا التي تلهم ممارستنا السياسية. وطالما نغفل عن هذه المثل، ستتفكك الأسس الاجتماعية للحياة السياسية.
بعد فشل الموفد الفرنسي الخاص، وبعد الاجتماعات الخماسية المتنقلة، جاء دور الموفد القطري «جاسم بن فهد آل ثاني»، حيث تتزامن مع زيارة وزير الدولة «محمد عبد الرحمن الخليفي»، حيث إنّ الموفد القطري «آل ثاني» لم يزر سوى رئيس المجلس النيابي «نبيه بري» والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله «حسين الخليل»، ويقابل ذلك زيارة رئيس التيار الوطني الحرّ «جبران باسيل» ورئيس حزب القوات اللبنانية «سمير جعجع».
ويستنتج من خلال هذه الزيارات إلمام الموفد القطري أنّ أيّ جلسة انتخابات ستحلّ لن تكون ميثاقية دون وجود حزب من هذه الأحزاب، وفي حال تمّت هذه المساعي سيتم توسيع مروحة الزيارات ليتمّ طوي مرحلة الشغور الرئاسي.
إذا كانت المبادرة القطرية ستنتج رئيساً للجمهورية، على الدول العربية أنّ لا تعمي أبصارها عن الجوانب المالية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي العمل على دعم لبنان ومواطنيه من أجل التعافي من الأزمة المعيشية.
لا يعني ذلك أن غالبية المواطنين اللبنانيين ينقادون خلف الشعارات الفضفاضة، التي يطلقها النواب الطامحون لتبوء كرسي رئاسة الجمهورية. فما يهمّهم هو في كيفية الخروج من هذه الأزمة التي قد تصل إلى تهديد الكيان اللبناني في ظلّ وجود نازحين سوريين، حيث لا يعد لشعارات الفدرالية وحقوق الطائفة من مكان. وبعد قرن من إعلان دولة لبنان الكبير والخبرة في فهم الحكم الطائفي، أصبحت إيقاعات الحياة الدستورية اللبنانية كفيلم خيالي بالنسبة لمعظمنا: عملية انتخاب رئيس الجمهورية، عملية تكليف رئيس الحكومة، عملية تشكيل الحكومة، تعطيل حكومة تصريف الأعمال… حيث تستغرق هذه العمليات سنوات وسنوات. جنباً إلى جنب مع هذه الإيقاعات يأتي لحن الطائفية وحقوق الطائفة.
ومع ذلك فإن الاغتراب الفكري لزعماء الأحزاب المسيحية له أثره الفادح في التعطيل والاستقواء بالخارج، من أجل تحصيل منافع شخصية. يدور الحديث المعقّد حول أن الممارسات السياسية التي لها نقطة دستورية عميقة وبقعرها عفريت الطائفية السياسية، هي في الواقع طقوس السحر الّتي تشوّه الديمقراطية في لبنان.
إن أجيالاً من المناكفات الطائفية ورثناها إلى يومنا هذا، حيث إنّها خفّفت من القبضة الشعبية على المثل الديمقراطية التي تحرك حياتنا الدستورية، مما يزيد من ضعف نظامنا الدستوري في الحاضر وفي لحظات الأزمات المستقبلية.
إذا حوّل المنظّرين الدستوريين انتباههم من مصلحة الطائفة إلى مصلحة المواطن، ومن الطائفية السياسية إلى حكم الديمقراطية، فقد يساهمون بشكل إيجابي في بناء رواية لبنانية أفضل، رواية أكثر صدق مع الحقائق التاريخية والمثل الدستورية التي تحركا تجربتنا المستمرة في التاريخ.
انظروا إذن إلى الصورة الجميلة للديمقراطية اللبنانية الفريدة: حيث نرى بموجبها أنّ الدستور الّذي يعاد اكتشافه مع كلّ أزمة سياسية ودستورية، لا يطبق بشكل كامل بحجج مختلفة.
ولئلا أخطئ سريعاً، سأقول إنّه حتى لو نجح كل اكتشاف جديد للدستور، فإنّ هذا الاكتشاف لن يؤدي إلى الطريق المباشر إلى المدينة الفاضلة. وعندما نكتشف السمات المميزة لدستور 1990، سنجد الكثير من النقص والخطأ والشر في تطوّره التاريخي.
لا ننسى أبداً أن مؤسس لبنان الطائفي، هو المستعمر الفرنسي الّذي حفل تاريخه بالفلاسفة الكبار وبالثورة الفرنسية التي أنتجت إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789. ولا يترتب على ذلك أننا قادرون على بناء مستقبل أفضل من خلال سلخ أنفسنا عن تاريخنا، خصوصاً عندما يتعامل الخطاب العام للأحزاب مع ماضي الحكم الطائفي وكأنّه يحتوي على أدلّة قيّمة لفكّ معنى حاضرنا السياسي.
لا يمكن لمقالة واحدة ولا لمئات المقالات أنّ تسرد 100 عام من الخبرة في الحكم الطائفي من حيث الفكر والممارسة السياسية. ومن يستطيع أن يتخيل أن التعايش الجبري في دستورنا مع الطائفية السياسية قد ينتهي في العام 2023؟