المغتربون خذلوا القطاع العقاري وإقفال الدوائر الرسمية فاقم الأزمة
لكثرة الصفعات التي تلقّاها اللبنانيون في استثماراتهم وجنى اعمارهم، والتجارب المذلة التي مروا بها، خصوصا في الأعوام الخمسة الأخيرة، فقد معظمهم الثقة بجدوى الإستثمار في لبنان، وضخ المزيد من تعب أعمارهم في مشاريع أو استثمارات ترضي طموحهم.
ولكن في عجالة فقدان الثقة، أثبت العقار أنه الملاذ الآمن الذي لطالما عوّل اللبنانيون عليه تاريخيا ولم يخذلهم.
مساحة البلد صغيرة، والطلب كبير على العقار، والنمو الديموغرافي اللبناني في ازدياد، ووجود ملايين اللاجئين مع حاجتهم القصوى للسكن والإيواء، جميعها أسباب مضافة تجعل من الإقبال على الإستثمار في العقار خيارا عقلانيا خصوصا في زمن انهيار القطاعات الاقتصادية في لبنان الواحد تلو الآخر، وآفاق إعادتها إلى دورها ونموها غير مرئية، بسبب الكثير من التعقيدات السياسية في بنية النظامين السياسي والمالي في لبنان.
لكن #القطاع العقاري أصيب كما بقية القطاعات الاقتصادية، من توقف قسري في عمليات البيع والشراء، فتوقفت عجلة البناء والتطوير وانهارت الاسعار في بعض الاماكن الى ما دون النصف، وبات حمَلة “الكاش” أقدر الناس على الشراء والتملك. وقد ساهم في ذلك التوقف الكلّي للمصارف التجارية ومؤسسة الاسكان عن منح القروض، اضافة الى تنامي عروضات البيع مقابل ندرة في الشراء.
حاليا، وبعدما أخذ الاقتصاد يعيد تكيّفه مع الازمة، ويستعيد بعض توازنه، عوّل المطورون العقاريون خلال موسم الصيف العامر، على المغتربين لتحريك عجلة البيع، خصوصا أن الاسعار المطروحة يمكن أن تشكل نسبيا فرصة ذهبية لاستثمار المدخرات، بعدما فقد الجميع ملاذهم الآمن في المصارف. لكن الموسم الصيفي الزاخر سياحيا، خيّب آمال المطورين العقاريين، ولم يشفِ المغتربون غليل أصحاب الشقق والمشاريع التي ينتظر بعضها منذ ما قبل حجر كورونا.
الأسباب عدة، لكن الملاذ اليوم في المنطقة إلى تبدل جذري، فاللبناني الذي اشتهر بأن أول استثمار له هو في اقتناء منزل في لبنان، باتت وجهته تركيا وقبرص واليونان، ودبي والسعودية وأي عاصمة يجد فيها الأمن النفسي والإقتصادي، بعدما لُدغ من جحر بلده مرات متتالية.
هذا الواقع يؤكده الخبير العقاري رجا مكارم، الذي قال لـ”النهار” ان “حركة القطاع العقاري لا تزال مشلولة، في حين كان يعول على حركة المغتربين لتنشيطه، ولكن لم نلاحظ أي نشاط ملحوظ في فترة الصيف، واقتصر الامر على شراء عدد من الشقق عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وبأسعار مقبولة نوعا ما مقارنة بما كانت عليه في السابق”. وإذ اعتبر أن “بيع شقتين أو أكثر لا يمكن أن يعول عليها للنهوض بالقطاع”، أشار في المقابل الى أن “حركة بيع الشقق لا تزال أفضل حالا من حركة بيع الأراضي التي لم تشهد اي بيوعات، علما أن العامل الأساس لنهضة العقارات هي الأراضي”.
ولا يستغرب مكارم ركود القطاع العقاري وتوقف تشييد مشاريع جديدة على خلفية توقف المصارف عن منح القروض، خصوصا أن بناء اي مشروع عقاري يتطلب تسديد ثمن الأرض قبل المباشرة بتنفيذه، فيما السؤال “من سيقدم على تشييد مشروع في ظل الأوضاع التي يعيشها لبنان، ومن سيشتري منه؟”، وأردف قائلا: “قد يبيع المستثمر الجديد 10 أو 15% من مشروعه الى زبائن يثقون به، فيما الغالبية لا يمكن أن تشتري اي شقة أو عقار ما لم يكن السند الأزرق جاهزا”.
ويتحسر مكارم على ما كانت تشهده بيروت من مشاريع عقارية سنويا يناهز عددها الـ 100 مشروع، فيما حاليا تقتصر المشاريع الجديدة على 5 أو 10 مشاريع كحد اقصى، واصحاب هذه المشاريع مضطرون الى انجازها، كونهم مرتبطين بسنوات محددة لتسليم المشروع الى الشارين الذين وقّعوا معهم عقود بيع. مع الاخذ في الاعتبار ان توقف الإنشاءات الجديدة عزز الطلب على بيع الشقق الموجودة، وإن كان الطلب عليها محدودا ايضا. وشرح مكارم أن “هذه الشقق مملوكة من أشخاص استثمروا أموالهم التي كانت موجودة في المصارف “لولار” بشراء شقق بغية الافادة منها لاحقا، عبر بيعها بسعر مرتفع نسبيا”. وعزا الاقبال على شراء الشقق المعروضة للبيع، الى خلفية أن كلفة الشقق الجديدة أغلى من الاسعار الرائجة. فالشقة المعروضة للبيع بـ 2500 دولار المتر المربع الواحد، قد يكلف بناؤها حاليا أكثر من هذا الرقم، من دون الاخذ في الاعتبار ارباح المطور. لذا لاحظنا أن الطلب يوازي عرض الشقق الموجودة بما أدى إلى عمليات بيع بأسعار اعلى مما كانت في السابق.
على مدى عامين متتاليين اقتصرت المبيعات على بعض الشقق المنجزة التي سعى مطوروها الى بيعها بأسعار مخفضة لتسديد ما عليهم من تسليفات ومتوجبات للمصارف.
أما حاليا فإن الطلب وإن كان يشمل الشقق الكبيرة والصغيرة، بيد انه يرتبط بدرجة أولى بالأسعار وبالفرص “اللقطة”، لكن هذا النوع من الفرص، وفق مكارم، غير متوافرة اليوم أو تغير مفهومها. فمنذ عامين كانت “اللقطة” عبارة عن 50% من قيمتها، أما اليوم فنسبتها تتعدى الـ 70% من قيمتها.
“المخزون لدى المطورين نفد”، اكد مكارم. “فخلال العام 2019، كان ثمة أكثر من 3 آلاف شقة لدى المطورين لا يستطيعون بيعها، ولكن خلال الازمة بدأ الناس يشترون عقارات باللولار، وقد ساعدهم في ذلك المطورون الذين تترتب عليهم ديون كبيرة، فوافقوا على بيع انشاءاتهم باللولار لتسديد ديونهم”.
ومع غياب الاحصاءات الدقيقة، قدّر مكارم تحسن حركة البيع في قطاع الشقق بنحو 5%، ولكن عموما لا يزال القطاع في حال يرثى لها، مع الاخذ في الاعتبار أن كلفة البناء زادت نحو 25% عن عام 2019. أما بالنسبة لقطاع الاراضي، فقال مكارم: “لم نشهد خلال سنة 2023 سوى بيع 4 أو 5 عقارات، ووصلت قيمة أكبر صفقة الى نحو 42 مليون دولار، علما أنها بيعت بنحو 30% من قيمتها الفعلية”.
ولا يرى مكارم أفقا واعدا للقطاع العقاري “صحة القطاع وعافيته ترتبط بالوضع السياسي والامني المستقر، وهذه العناصر مفقودة حاليا، فيما نشهد اليوم احتلالا مدنيا للبنان من النازحين السوريين الذين يدخلون الأراضي اللبنانية بحشود كبيرة”.
من جهته، أكد رئيس جمعية تجار ومنشئي الأبنية إيلي صوما ان القطاع العقاري في وضع صعب جدا. فالقطاع الذي “كان يعول على المغتربين لانتشاله من كبوته، لم يحظ الا بعدد محدود من عمليات البيع وبنسب خجولة جدا. وقد ساهم في عرقلة عمليات البيع اقفال الدوائر العقارية. فالشاري يحتاج الى براءة ذمة، خصوصا ان الكثير من الشارين استحصلوا على براءات ذمة موقتة، ليتبين لاحقا أن الشقق التي اشتروها غير قانونية أو تواجه مشكلات عدة”.
وأشار الى ان اسعار العقارات (الاراضي غير المبنية) انخفضت أكثر من 50% في المناطق كافة، فيما انخفضت اسعار الشقق عموما بين 35% و 40%. وشهدت محافظة جبل لبنان أكبر نسبة بيع للشقق الصغيرة هذه السنة.
ولاحظ صوما أن الكثير من اصحاب الشقق والعقارات يفضلون المحافظة عليها تجنبا لبيعها بأسعار منخفضة، خصوصا اذا كانوا ليسوا بحاجة الى سيولة.
وإذ أشار الى عمليات بيع شقق بأسعار منخفضة، قرر أصحابها وغالبيتهم من موظفي القطاعين العام والخاص الهجرة الى الخارج، لفت صوما في المقابل الى أن بعض اللبنانيين يلجأون الى شراء شقق في قبرص واليونان هربا من الأوضاع غير المستقرة في لبنان اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.
اللبنانيون نحو قبرص واليونان؟
توجُّه اللبنانيين نحو قبرص واليونان لشراء شقق ومنازل أكده المطور العقاري جورج شهوان الذي تحدث عن تملك لبنانيين أكثر من 30 ألف شقة في المشاريع السكنية التي شيدتها شركته في قبرص وعددها 70 مشروعا، منها ما يقارب 10 آلاف شقة في سنوات الازمة في لبنان أي بعد عام 2019.
يبلغ عدد اللبنانيين الذين فضلوا الاستقرار في قبرص بعد عام 2019 نحو 10 آلاف مواطن وهم من بين اول 4 جنسيات تملكوا عقارات في قبرص (اسرائيل وروسيا وبريطانيا) يتوزعون بين مدن لارنكا وليماسول ونيقوسيا، أما في اليونان فتأتي الجنسية اللبنانية في المرتبة الرابعة بعد إسرائيل والصين وألمانيا وتتركز استثماراتهم العقارية في أتيكا جنوب اليونان (المنطقة المحيطة بأثينا).
وتطرق شهوان الى القطاع العقاري في لبنان، فاشار الى أن شركته تعمل على بيع العقارات المتبقية، لتتفرغ للعمل في قبرص حيث الحركة الاستثمارية في أوجها، لافتا الى أن عروضات البيع خفت كثيرا، خصوصا ان غالبية المقترضين سددوا قروضهم للمصارف،، وهذا ما يفسر الجمود برأيه. وفي حين اشار الى أن الاسعار لا تزال منخفضة في المناطق كافة، أوضح أن غالبية المطورين واصحاب المشاريع في انتظار تحسن الاسعار لمعاودة عمليات البيع.