إستكمال تنفيذ “الطائف” يدفع أميركا والسعودية إلى مساعدة لبنان
الإلحاح على تطبيق “إتفاق الطائف” في لبنان، أو بالأحرى على تصحيح ما نُفّذ منه وما لم ينسجم على الإطلاق مع الأهداف اللبنانية التي أرادتها المملكة العربية السعودية منه كما على تطبيق ما لم يُنفّذ منه بقرار المنظومة السياسية المتنوّعة الحاكمة منها والمعارضة ينبع، في رأي الباحثة الجدّية نفسها في مركز الأبحاث الأميركي المهمّ نفسه، من الخوف الفعلي والصحيح من مخططات “حزب الله” لتغيير الدستور اللبناني، ومن إعادة هيكلة توزيع السلطة في لبنان بين طوائفه والمذاهب، ومن فرض ثلاثية جديدة، ولا سيما في مجلس النواب، يكون للشيعة بواسطتها ثلث أعضاء المجلس بدلاً من ربعه، ومع ترسانة الأسلحة التي يمتلكها “حزب الله” وميليشياه التي صارت جيشاً نظامياً يجمع بين مهارات الحرب النظامية وحرب العصابات ومن “سيطرته” على الطائفة الشيعية، فإن ربح المزيد من المقاعد في المجلس النيابي يعني مزيداً من السيطرة الإيرانية على مؤسسات الدولة كما من القدرة على ضبطها. من شأن تغييرات كهذه أن تؤثّر في أي عملية تأليف حكومة جديدة في لبنان، كما في التعيينات السياسية والأمنية، وعدم ترك أي مجال لمقاومة سيطرة إيران. وتطبيق اتفاق الطائف قد يكون وسيلة لإيقاف، أو بالأحرى لعرقلة مخططات “الحزب” لإعادة هيكلة توزيع تقاسم السلطة أو التشارك فيها داخل لبنان. يعني ذلك الحؤول دون استمرار إيران في ممارسة نفوذها الكبير لبنانياً كما من التأثير في هويته ودينامياته السياسية.
هناك في رأي الباحثة الجدية نفسها في مركز الأبحاث الأميركي المهم نفسه بنود مهمة بل حاسمة في اتفاق الطائف لم تُنفّذ بعد رغم مرور نحو 35 سنة على التوصل إليه في المملكة العربية السعودية وبرعايتها كما برعاية الولايات المتحدة والموافقة المشروطة لسوريا حافظ الأسد. ولو طُبّقت لكانت زوّدت مؤسسات الدولة بسلطة قوية ومكّنتها من التخلّص، أو بالأحرى من إلغاء الإنقسامات السياسية المذهبية، وفي الوقت نفسه من إضعاف “حزب الله” وحلفائه. وبالنسبة الى المملكة العربية السعودية يشكّل ذلك، أو بالأحرى يفتح مواجهة وجودية أبعد كثيراً من رئاسة الجمهورية والإختلاف على مَن يشغلها، لكنه يمكن أن يبدأ بها. في أي حال لن تعود السعودية أبداً الى الوراء، أي الى اعتبار اللبنانيين وربما غيرهم إياها “دفتر شيكات” لبلادهم، ولن “تصبّ” على بلادهم مليارات الدولارات من دون شروط كما من دون حصول نتائج سريعة بل مباشرة. فتلك الأيام انتهت والى غير رجعة. وإذا أرادت السعودية مدّ لبنان بالمال مرة ثانية وفي سرعة فإنها ستشترط في مقابل ذلك رؤية نتائج، مثل إنخفاض قاسٍ جداً في نفوذ إيران داخل لبنان، وتطبيق اتفاق الطائف، وتطبيق القرارات الدولية وخصوصاً قرار مجلس الأمن رقم 1701، وإصلاحات جدية من خلال برنامج صندوق النقد الدولي. فالعربية السعودية لن تدعم لبنان من الآن وصاعداً من دون شروط مسبقة، وهي قد تستثمر في لبنان أي الدولة غير الخاضعة وغير المذعنة للتهديدات والإرهاب والمتأهبة للعمل من أجل إنقاذ نفسها وشعبها من الأهوال التي هي فيها الآن، والتي تتصرّف بوفاء وإخلاص وولاء مع تحالفها الإقتصادي والسياسي. وأي تقدّم على هذا الصعيد سيكون مشروطاً بتطبيق اتفاق الطائف.
ما هو دور الولايات المتحدة ومضاعفاته السياسية؟ تطبيق الإصلاحات وإضعاف “حزب الله” في لبنان يجب أن يكونا أولويات أميركية في رأي الباحثة الجدية نفسها. وسواء رأى اتفاقٌ سعودي – إسرائيلي عرّابته الولايات المتحدة النور قريباً أم لا فإن المملكة العربية السعودية وإسرائيل والولايات المتحدة ستستمر في رؤية “حزب الله” في لبنان تهديداً ليس له فقط بل لمصالحها كلها أيضاً. فاتفاقات السعودية مع إسرائيل وإيران والصين وروسيا لن تؤثّر على سياستها اللبنانية. لكنّ عاملاً واحداً قد يعطّل ذلك هو دور أميركي أكثر قوة ونشاطاً وحتى عنفاً. فالولايات المتحدة هي المانح الأكبر للبنان اليوم، إذ فاقت المساعدة الأميركية له منذ 2010 أربعة مليارات دولار. لكن لم تكن هناك سياسة أميركية واضحة تجاه لبنان باستثناء دعم الأمن وتقديم مساعدات إنسانية. هذا فضلاً عن فرض عدد من العقوبات المحدّدة. والدفع الأكبر لمساعدة لبنان على إنجاز تغيير في قيادته فُوِّض الى فرنسا التي يمثلها حالياً موفدها الخاص الى بيروت جان – إيف لودريان. على العربية السعودية أن تُقرِّر زيادة بل تعزيز جهودها في لبنان هذا إذا كانت هناك سياسة أميركية واضحة تتضمن مواجهة المصالح الإيرانية فيه وإنهاءها.
ماذا يمكن أن تتضمن هذه السياسة؟ يجب أن تتضمن استناداً الى الباحثة الأميركية الجدية نفسها مزيداً من العقوبات على حلفاء “حزب الله” ومجتمع الأعمال فيه وكشف صلاته بالحوثيين في اليمن وبعدد من المجموعات في دول الخليج العربية المتصلة بإيران. الى ذلك، تستطيع الولايات المتحدة العمل لكبح تهريب مخدِّر “الكبتاغون” وفي الوقت نفسه التجنيد الحديث لـ”حزب الله” لمقاتلين من أهل السنّة في لبنان والمخيمات الفلسطينية داخله. لا شك في أن في اتفاق الطائف عيوباً. فهو مثلاً أكد وجوب نزع سلاح الميليشيات في لبنان كلها، لكن “حزب الله” استُثني من ذلك وعومل بوصفه “قوة مقاومة”، أكثر مما هو ميليشيا تهدف الى محاربة الإحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. الى ذلك، اعترف اتفاق الطائف بإلغاء الطائفية السياسية واعتبر ذلك أولوية وطنية. لكنه لم يحدّد مهلة زمنية لإنجاز هذا الهدف، في حين أنه نفّذ تقسيماً مذهبياً للسلطة في مجلس النواب، فضلاً عن أن الطائف صنّف النظام السوري وسيطاً في لبنان، لكنه استغلّ دوره هذا على نحو سيئ ومؤذٍ للبنان. وقد استمر ذلك حتى عام 2005. ورغم هذه الأخطاء والعيوب فإن في اتفاق الطائف المذكور عناصر عدّة تستطيع الولايات المتحدة أن تُلقي الضوء عليها وأن تجد “أرضاً مشتركة” حول هذه الأمور مع العربية السعودية. فهو تضمّن مثلاً بنوداً تتحدّث عن تنفيذ إصلاحات وعن استقلال القضاء واللامركزية الإدارية، وقانون لا طائفي ولا مذهبي للإنتخابات النيابية وتأسيس مجلس للشيوخ. لكن كل ذلك لم يُنفّذ. لهذا يحتاج “الطائف” وبقوّة الى تحديث. والبداية يمكن أن تكون بمزيد من التطبيق الفعلي لما طُبّق حتى الآن منه. وإصلاحات كهذه يمكن أن تسهّل عودة الدعم السعودي الى لبنان، وإذا لم يحصل ذلك فإن لبنان سيستمر في الإنجرار الى دائرة إيران مع أولوية للشيعة داخله وسيطرة لـ”حزب الله”.