من مورفي إلى لودريان: معادلات الإذعان وأبلسة الرفض
«الحوار أو الخطر الوجودي» بهذه العبارة لخّص الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان قراءته للمشهد الرئاسي اللبناني واستطراداً للواقع السياسي العام، فضمّنها تسويقاً إستباقيًّا مُعلّباً بوجه المعترضين على الحوار في تشريع الخطر الوجودي المحدق باللبنانيين، توازياً مع تقديمه صك براءة من التّهمة لمن يُشارك بجلسات الحوار المفترضة.
معادلة الديبلوماسي الفرنسي، تتماهى من جهة أولى وفي الماضي المنظور مع ما طرحه أمين عام حزب الله حسن نصرالله، حينما غلّف ترشيحه للوزير السابق سليمان فرنجية بمعادلة «فرنجية أو الفوضى»، ومن جهة ثانية وفي الماضي البعيد مع معادلة الموفد الأميركي ريتشارد مورفي والذي نقلها معه من دمشق «الضاهر أو الفوضى»، وعاد وتبرّأ ومنها.
وما بين تلك المعادلات، خطوط عريضة في كثير من المحطات المصيرية والاستحقاقات الوطنية، وُضعت أمام اللبنانيين وخيّرتهم ما بين القبول بها أو إغراقهم بتهم الخيانة والمسّ بشمّاعات «العيش المشترك» و«الوحدة الوطنية» والتي دائماً ما تكون جاهزة رفقة المخاطر الأمنية التي تُستنبط فجأةً، وكأنّ قدر هذا الشعب أن يبقى مُكبّلاً في ما يُرسّم له، حتّى لو على حساب أمانه وحرّيته ودستوره وهويّته.
وفي العودة إلى معادلة العام ١٩٨٨، والتي أرادتها القوّة الاحتلالية للبنان أن تكون إنذاراً مباشراً للبنانيين في أنّ رفضهم لمرشّح دمشق النائب السابق مخايل الضاهر، سيُكلّفهم الفوضى، وبأنّ لا خيار لهم سوى الرّضوخ لإملاءات آل الأسد بمعيّة الرّعاية الدولية، كان الرّفض المسيحي آنذاك، فعلاً موحّداً في الشكل ومتضارباً في الممارسة، وهو ما أثبتته التجربة التي تبعت سقوط المعادلة.
ففي حين أراد رئيس «القوّات اللبنانيّة» سمير جعجع رفض الاذعان والرضوخ للأمر السوري والإصرار على مواصلة السّعي اللبناني لإنتخاب رئيس للجمهورية بقرار لبناني صرف، بانت نوايا الرئيس السابق ميشال عون بعد تعيينه على رأس الحكومة العسكرية، بأنّ هدفه بلوغ سدّة الرئاسة الأولى، متسلّحاً بجموحه وطموحه وطمعه السلطوي، مُنقلباً على المهمّة الانتقالية التي أُوكلت إليه والتي كانت تقضي في الذهاب نحو إنتخاب رئيس عبر تأمين كل الأطر الدستورية والشعبية والسياسية لذلك، ما أدّى إلى تشريع الفوضى بدءاً بحرب التحرير وليس انتهاءً بحرب الإلغاء، وبالتّالي، إنّ مقولة إختيار الفوضى على حساب «رئاسة الضاهر» هي مقولة خاطئة وساقطة، فلو إلتزم عون بمهمّته لما وصلنا إلى الفوضى التي أرساها بنفسه، ولو سلّم جعجع بتلك المعادلة لكانت سقطت كلّ مسيرة المقاومة اللبنانية التي واجهت ولم تقبل التسليم بالأمر الواقع رغماً عن الإرادة اللبنانية، ولكانت أسقطت معها كلّ أسس الصّمود والمواجهة التي واجهت الإنقلاب المستمرّ على الدستور اللبناني.
وتتجدّد اليوم المعادلة نفسها، ولكن مع اختلاف التسمية في شقّها الأوّل واشتداد الخيار البديل عن هذه التسمية في شقّها الثاني، فمنذ أن رشّحت قوى فريق الممانعة رئيس تيار المردة، بات لسان حالها يُروّج إلى أنّ لا خياراً بديلاً عنه إلّا الفوضى والخراب وانهيار الدولة، وكأنّ العمران والتقدّم والتطوّر يحكمون الواقع، وكأنّ تجربة «الرئيس الممانع» لم تقم سابقاً وتحديداً في العهد الرئاسي الأخير، أو أنّها أنجزت ما يتعارض مع الفوضى وتوابعها، وكأنّ لا أصول ديمقراطية تُتيح تعدّد الخيارات الرئاسية.
وبعد أن فشل فريق الممانعة بربط معادلته الرئاسية بأرقام نيابية تُثبّت أنّ لا خيار غير الوزير فرنجية، مع تأخّره أمام تقدّم مرشّح التقاطع الوزير السابق جهاد أزعور، لجأ فريق الثنائي الشيعي إلى تعديل صيغة معادلته من فرنجية إلى الحوار ومن الفوضى إلى الخطر الوجودي، ولكن هذه المرّة بمعيّة الموفد الفرنسي، الذي وجد نفسه بصدام مع معارضة متشددة في تطبيق الدستور.
فهل فعلاً لا خيار غير الحوار؟ وهل في عدم الذهاب إليه جنوح نحو الخطر الوجودي؟ وهل بات مصير لبنان ووجوده مربوطاً بطاولة؟ وهل انتفت الحلول الدستورية كي تُستبدل من «المؤتمن على تطبيق الدستور» بطرح تمييعي؟
إحدى المساوئ في المعادلة المطروحة، هي ربط وجود لبنان بطاولة حوار أرادها فريق سياسي لتمرير مرشّحه بعد انسداد كلّ الأبواب بوجهه، عوض ربط هذا الوجود بتطبيق الدستور ورفض استبدال المؤسسات الرسمية بأطر غير دستورية والنّصوص الدستورية بأعراف جديدة، والسياق الديمقراطي بإطار معلّب.
الحوار ورغم قيمته الإنسانية الرفيعة، سبق وجُرّب منذ اتّفاق الطائف، وتمّ الانقلاب عليه في رفض تسليم سلاح كلّ الميليشيات للدولة اللبنانية، واستمرّ هذا الانقلاب من الفريق نفسه، في حوارات ما بعد الانسحاب السوري من لبنان، منذ العام ٢٠٠٦ حتّى يومنا هذا، تارةً باستجرار حرب مدمّرة وطوراً بإسقاط إعلان بعبدا وما بينهما وبعدهما.
حتّى أنّ الحوار المنشود من قبل فريق الممانعة، يأتي على شاكلة «إلتقاط الصور» لا أكثر ولا أقلّ، خاصّة أنّ المطروح مستديرة فضفاضة بعدد المشاركين، على الرغم من أنّ القاصي والداني يعلم أنّ لفريق الممانعة محرّكا واحدا يتواصل مع بقيّة القوى، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويُمعن في عدم التنازل عن مرشّحه الرئاسي، أكان في حواره مع رئيسيّ «التقدمي الاشتراكي» و«الوطني الحر» أو غيرهما، وبالتالي لم تصل كلّ حواراته الثنائية لنتيجة، فكيف بالحريّ حوار فضفاض أشبه بالفلكلور، يُراد منه نزع تهمة التعطيل عن أصحابه؟
إنّ الخطر الوجودي لا يرتبط بحوار أراده فريق تعطيلي بإمتياز، حتّى لو تلطّى خلف دولة أجنبية، بل يرتبط بنسف الدستور وعدم الإلتزام به، وبالتالي الخطر هو في عدم الذهاب إلى جلسة إنتخابية نيابية واحدة ومفتوحة وبدورات متتالية لا يُقفل محضرها ولا تنتهي إلا في انتخاب رئيس للجمهورية.
فكما أنّ «معادلة مورفي» كانت ضارّة ومسمومة حيث خلت من الخيار اللبناني وحاولت إجبار اللبنانيين على الرضوخ لمرشّح بعينه وإلّا التهديد بالفوضى، هكذا تماماً هي معادلة الممانعة ومن بعدها لودريان حيث خلت من المبدأ الدستوري وحاولت إجبار اللبنانيين على السيّر بمرشّح حزب الله واستطراداً بالحوار الذي يؤدّي إليه أو تلقّي الفوضى والخطر والزوال.
قد تكون تلك المعادلات هي الأداة الأسهل تسويقاً لدى الرأي العام بغية تغطية محاولات الفرض والانقلاب على الدستور بعبارات تستر الخطر الحقيقي بابتكار خطر مضاد، لكنّها تبقى معادلات إذعان ومواجهتها تُشكّل مقاومة فعلية تحرص على الدستور ولو تمّت أبلستها وأبلسة من تبقّى في مواجهتها؛ في حين أنّ المعادلة الطبيعية الوحيدة التي تُلامس الواقع هي «الدستور أو شريعة الغاب»، فهل مَن يصحو؟