استمرار دولرة رواتب القطاع العام جزء من معركة تثبيت سعر الصرف

بعدما لجأ مصرف لبنان في بداية الأزمة الاقتصادية، مجبراً لا مخيّراً، إلى طباعة المزيد من الليرات لتأمين مصاريف الدولة ودفع رواتب وأجور جيش العاملين في القطاع العام والمتقاعدين، اضافة إلى الاسلاك العسكرية، كانت الحاجة الى ذلك أكثر من ضرورية وملحّة.
الخطوة ببُعدها الاقتصادي السلبي، أمّنت ديمومة عمل مَرافق الدولة نسبياً، وتماسك المؤسسات العسكرية والأمنية، التي حافظت على الأمن والمقار الرسمية للدولة في ظل اندفاعة شعبية استمرت طوال سنة تقريبا.

المزيد من الطبع، إستولد المزيد من التضخم، وهذا بدوره ساهم جزئيا في سقوط الليرة، ليتحول السؤال المحوري في اي نقاش إقتصادي: كيف نوقف التضخم؟ فعلها مصرف لبنان ودولر رواتب واجور القطاع العام والمتقاعدين، ومنحهم هامشاً من زيادة غير رسمية على قيمة رواتبهم، عندما حوّلها الى #الدولار على سعر منصة صيرفة.

هدف مصرف لبنان بإجرائه هذا إقتناص فرصتين. الأولى تعزيز القدرة المعيشية لصغار الموظفين، إلى حين تعيد الدولة الإمساك بالملف الاجتماعي، وترتيب إطار قانوني ومالي لتعديل الرواتب والأجور. وثاني الأهداف، وهذا كان الأهم بالنسبة إليه، هو وقف ضخ المزيد من الليرات في السوق، (وصلت في حينه إلى 5500 تريليون ليرة شهريا) لكبح جماح التضخم، وتقليص عمليات اللجوء الى شراء الدولار.

إعتاد القطاع العام القبض بالدولار، وامتلك موظفوه ومتقاعدوه ذلك الأمان النفسي الذي يشعرهم بطمأنينة إجتماعية على رغم هزالة رواتبهم، وصارت الإشارة أو الشائعة، عن نية مصرف لبنان التوقف عن دفع الرواتب بالدولار على سعر صيرفة، بمثابة إنذار بعودة الإعصار الشعبي والمطلبي الى الشارع مجددا.

الموظف الخائف على لقمة عائلته، يقابله موظف آخر في موقع المسؤولية، خائف ايضا على احتياطات مصرفه المركزي، واستدامة قدرته على الصمود في حال استمر مصرف لبنان في سياسة دفع الرواتب على دولار صيرفة، واستنزاف الدولارات المتبقية في خزائن “المركزي”.

الخوفان مشروعان، وكلاهما يقبضان على نار الخوف من الغد. الموظفون في حالة اجتماعية مزرية، يتمسكون بصلابة بنسبة الـ5% الناتجة عن الفارق بين سعر صرف السوق وسعر صيرفة، فيما يلحّ بعض المسؤولين في “المركزي”، وخبراء في الاقتصاد والمال، على الحاكم بالإنابة وسيم منصوري لوقف الدفع بالدولار، والتفرغ لضبط سعر الصرف فقط، علما أن مصرف لبنان لا يقوم بعمليات شراء ضخمة من السوق، بل يقوم بذلك بسلاسة وهدوء حتى لا يتسبب بإثارة سكون الأسواق وتحريك سعر صرف الدولار صعودا.

تأمين الرواتب بالدولار يؤمّن للسوق سيولة تمنع القفز الجنوني في سعر الصرف، وتدعم الأجور بنسبة 5% حاليا على سعر صيرفة، وهو ما يصرّ على بقائه موظفو القطاع العام. لكن هذه الإيجابية لا تلغي خوف البعض من أن لجوء مصرف لبنان شهريا الى السوق لتأمين دولارات الرواتب، قد يتسبب بانهيار جديد في سعر الصرف، علما ان مسؤولية الرواتب والأجور وقيمتها ونوعية العملة التي تُدفع بها، هي مسؤولية حصرية عند وزارة المال، ودور مصرف لبنان في ذلك لا يتعدى تأمين السيولة، والإجراءات المصرفية التقنية.

عصفوران بحجر واحد

عشية تحضير الرواتب للقطاع العام لشهر ايلول، علت الاصوات المعارضة لقيام مصرف لبنان بدفع رواتب بالدولار على اعتبار انها ليست من مهمته بل من مسؤولية الدولة. هذا صحيح، تؤكد مصادر مصرف لبنان، ولكن من مسؤوليته ايضا ضبط التضخم والسيطرة على سعر الصرف، والكتلة النقدية التي توازي 7200 مليار ليرة (قيمة الرواتب والأجور شهريا) تشكل عاملاً ضاغطاً على استقرار سعر الصرف. وتاليا في حال ارتفع سعر صرف الدولار قليلا فمن الصعب اعادة ضبطه، عدا عن أن المسألة تعطي نوعاً من الامان الاجتماعي وأمان نقدي من جهة ثانية.

المعارضون لدفع مصرف لبنان الرواتب بالدولار، يؤكدون ان الموظفين يقبضون بالليرة، وعليهم مدفوعات بالليرة، وتاليا لن يحوّلوا رواتبهم الى الدولار خصوصا اذا كان سعر صرفه مستقرا، وفي حال تطلب الامر دفع فواتير بالدولار، فإنه يمكن أن يدفعوها بالليرة على سعر صرف السوق.

ولكن عدم اعطاء الرواتب بالدولار للموظفين، سيؤجج الاحتجاجات التي قد تدفع الى المطالبة بزيادة الرواتب، بما سيؤدي الى ضخ كتلة نقدية بالليرة، وتاليا الى زيادة الطلب على الدولار، علما أن مصرف لبنان لا يضخ الليرة في السوق حاليا. ومع ذلك، لا يعِدُ مصرف لبنان بأنه سيستمر في تأمين الرواتب الى أبد الآبدين، بل يؤكد أنه طالما في استطاعته تأمينها من دون خسائر تُذكر على “المركزي” ومن دون مسّ بأموال المودعين، فإنه لن يتوانى عن ذلك، مع الاخذ في الاعتبار أن الدولار متوافر بكثرة في السوق، وتاليا يقوم مصرف لبنان بطريقة سلسلة بشرائه من السوق، وليس دفعة واحدة على نحو يمكن أن يهزّ السوق.

توازياً، تؤكد مصادر متابعة ان ايرادات وزارة المال بلغت في شهر آب وحده نحو 26 ألف مليار ليرة، ونحو 23 مليون دولار “فريش”، فيما حجم رواتب القطاع العام الذي تدفعه وزارة المال اضافة الى الرواتب التي تدفعها البلديات وكهرباء لبنان وغيرها من المؤسسات والادارات العامة لا يتجاوز الـ 7 آلاف مليار ليرة، بما يعني أن وزارة المال أمّنت رواتب للأشهر الاربعة المقبلة.

وتشير المصادر الى أن مصرف لبنان لا يؤمّن ليرة واحدة للدولة، بل هي تؤمن من ايراداتها، وبما ان ايرادات وزارة المال “الكاش” تقدّر بنحو 16 ألف مليار و500 مليون ليرة، اي نحو 190 مليون دولار على سعر صرف 90 ألف ليرة، فإنها يمكن أن تؤمن رواتب القطاع العام بمجمله مع المؤسسات والادارات العامة والقوى الامنية والتي تقدّر بـ 75 مليون دولار لنحو 340 ألف عائلة. وتؤكد أن “لا حاجة لأن يتدخل مصرف لبنان، إذ إن مجموع ما سيشتريه من دولارات للرواتب هي نحو 6500 مليار ليرة، ويتبقى للدولة نحو 10 آلاف مليار ليرة”.

وإذا كانت نسبة الـ 5% التي يحصل عليها الموظف كفارق بين سعر صرف السوق (90 ألف ليرة) وبين الدولارات التي يؤمّنها مصرف لبنان على سعر 85 الفا و500 ليرة تريح القطاع العام، فإن الفارق لا يعتبره مصرف لبنان خسارة لأنه يأخذ في الاعتبار عدم الضغط على الليرة في حال ضُخّت الرواتب بالسوق دفعة واحدة لشراء الدولار على نحو قد يهز استقرار سعر الصرف. عدا عن ذلك، فإنه اذا لم يتم تأمين الدولارات لرواتب القطاع العام، وعمد الموظفون الى تحويل رواتبهم الى الدولار فإنهم بذلك سيخسرون جزءا من رواتبهم، اضافة الى خسارتهم الـ5%. من هنا تعتبر المصادر أن مصرف لبنان يهدف من خلال تأمين الرواتب بالدولار الى ضرب عصفورين بحجر واحد لتأمين الرواتب بالدولار: 5% زيادة على رواتب الموظفين، مع المحافظة على استقرار الليرة.

وفيما اشيع أن مصرف لبنان ابلغ عددا من المؤسسات العامة وكافة المصارف التجارية ان رواتب القطاع العام من الموظفين والمتقاعدين ستُدفع هذا الشهر على سعر صيرفة المعمول به اي 86,300 ليرة، وتاليا التوقف عن العمل بسعر صيرفة الذي كان معمولاً به لرواتب القطاع العام بقيمة 60 ألف ليرة، وأنه يجري حاليا تحويل رواتب القطاع العام على سعر صيرفة 86,300 ليرة، أكدت مصادر “المركزي” أن رواتب شهر تموز وآب وايلول لم تكن تُدفع على سعر 60 الفا، بل تم دفعها على سعر صيرفة البالغ 85.500 ليرة. وفي حال تم اتخاذ القرار باستمرار تسديد الرواتب نقداً بالدولار في تشرين الاول سيتم اعتماد سعر صيرفة الاخير والبالغ 85,500 ليرة لكل دولار. أما الدفع على 60 الفا فكان إجراء موقتاً وتوقف منذ حزيران الماضي.

Leave A Reply

Your email address will not be published.