بالارقام: السياحة تنقذ الاقتصاد صيفاً وهذه عائداتها

 

“رُبّ ضارة نافعة” هي العبارة التفاؤلية التي ترسم صورة عن “النفع” الذي تأتّى من “ضارة” انهيار الليرة، وسقوط القطاعات الاقتصادية الواحد تلو الآخر. فانهيار سعر صرف الليرة جعل أسعار الخدمات السياحية مقارنةً بما كانت عليه قبل الإنهيار، تتدنى بنسب كبيرة في مختلف محاور القطاع السياحي. الفنادق لم تعد أسعارها كما كانت قبل الأزمة، وكذلك المقاهي، والخدمات المطعمية، وسيارات الإيجار والأجرة، ما صنع تحوّلاً كبيرا وإيجابيا في هوية السياح، وقدرة القطاع على استقطاب واستيعاب مَن هم من ذوي الميزانيات المنخفضة الذين لم يكن لبنان سابقا وجهتهم المغرية لارتفاع الخدمات السياحية فيه.

أضاء الموسم السياحي صيف 2023 “شمعداناً” في نفق الاقتصاد المعتم بفعل الموت السريري للدولة والنظام، وأشعل التفاؤل الذي غاب عن أهل القطاع بعودته إلى الحياة، بعد صفعتي كورونا وسقوط الليرة، إذ لم يكن مشهد هبوط ما بين 100 و150 طائرة في مطار بيروت يوميا تنقل ما بين 10 آلاف إلى 15 ألف راكب مغتربين وسياحاً، مشهدا معتادا في السنوات العشر الأخيرة. مشهد أعاد إلى الأذهان أيام كانت بيروت وجبال لبنان مقصدا وهدفا للسياح الأجانب، وكذلك لمغتربيهما.

لم يستثنِ الموسم هذا الصيف منطقة في لبنان، “الكل إشتغلوا” كما يقال. الفنادق والمطاعم، وبيوت الضيافة المنتشرة في الجبال والغابات الريفية، كانت ميزة صيف 2023 بعدما استفاض مستثمروها في تجهيزها بالكهرباء على الطاقة الشمسية وجميع مستلزمات الخدمات والراحة، حيث ساهمت بدورها في إنهاض الاقتصاد المحلي للقرى والبلدات البعيدة نسبيا عن المركز وعن المناطق المصنفة تاريخيا سياحية.

عاد للبنانيين هذا الصيف ذلك الإمتعاض الذي كانه أيام العز من عجقة السير وضجيج المطاعم والمقاهي الليلية واكتظاظ الأسواق و”المولات”، لكنه أتى أيضا بمثابة عزاء ليبلسم خوفهم من سقوط البلاد في الإنهيار الشامل، والإفلاس الدراماتيكي.

فائض الدولار في الأسواق والنشاط التجاري والسياحي الملحوظ كشفا بوضوح حجم الكتلة الدولارية التي ضخّها السياح والمغتربون في الدورة الاقتصادية التي بلغت وفق تقديرات أهل القطاع ما بين 6.5 مليارات و7 مليارات دولار، فيما كان المتوقع هو 4 مليارات فقط في أقصى تقدير قبل حلول الصيف. بَيد ان العائد الكبير للموسم السياحي، على إيجابياته، يستولد أسفاً كبيراً على عدم دخول المليارات هذه الى الدورة المصرفية وبقائها في خزنات المنازل والشركات، وهي تاليا لن تكمل وظيفتها في الدورة الاقتصادية الكاملة وستبقى مشاركتها في تعزيز النمو مبتورة.

يبقى أن الإفادة المباشرة لمالية الدولة بعد نجاح الموسم السياحي يُفترض أن تكون “حرزانة” هذه السنة. فعائدات المطار ورسوم السفر، والضريبة على القيمة المضافة، وبيع الخطوط الخليوية وغيرها من الضرائب غير المباشرة ستمدّ حتما وزارة المال ومصرف لبنان ببعض الأوكسيجين النقدي.

منتجات سياحية جديدة

يفاخر نقيب اصحاب المؤسسات السياحية بيار الاشقر بأداء القطاع الخاص في لبنان وخصوصا مؤسسات القطاع السياحي، فهو على رغم الواقع المرير الذي تعيشه البلاد أمنيا واقتصاديا وسياسيا، استطاع النهوض من جديد، واعاد اعمار ما تهدم بعد انفجار المرفأ، حتى انه ابتكر منتجات جديدة. فبيوت الضيافة التي كان يصل عددها قبل الثورة إلى 20 أو 22 مؤسسة كحدّ أقصى في المناطق كافة، يصل عددها اليوم إلى نحو 220 بيتاً للضيافة، وامتدت لتشمل مناطق لم تكن موجودة على الخريطة السياحية اللبنانية.

وعلى رغم الاخبار السلبية التي تُبث في وسائل الاعلام العالمية عن لبنان، يؤكد الاشقر أن “لبنان كان مقصدا سياحيا للبنانيين المهاجرين هذه السنة، ونجح القطاع السياحي بإضافة رونق إيجابي ناجح للبنان، فيما الأرقام التي تحققت في صيف 2023 كانت بشرى سارة للوطن مقارنة مع كل ما واجهناه”.

ولا يخفي الاشقر أن مواقع التواصل الإجتماعي كانت المروّج الأساس والمساعد لتعريف الناس على السياحة في لبنان، من خلال نشر الصور عن الأماكن السياحية، وخصوصا تلك التي لم يكتشفها أحد، كمنطقة “الضنية” مثلا التي برزت بجمال طبيعتها.

ويلفت الاشقر الى ان السياحة الرياضية كانت سائدة هذا الموسم مثل رياضة المشي والـ Hiking، وتسلق الجبال وقيادة الدراجات وخصوصا في مناطق اللقلوق والعاقورة وجبيل والبترون، اضافة الى الـRafting الذي اشتهر في نهر العاصي، بما دفع إلى إنشاء بيوت للضيافة في رأس بعلبك والبقاع. إلى جانب بيوت الضيافة، برز ايضا منتج سياحي جديد (الـ Airbnb)، بما ساعد في تنشيط المناطق النائية، حتى أصبح الوطن من جنوبه إلى شماله منطقة سياحية بامتياز. الى ذلك، يشير الاشقر الى ظاهرة لافتة تتعلق باللامركزية السياحية، إذ باتت كل منطقة تعمل من خلال ابنائها أو المعنيين فيها على الترويج السياحي للأماكن البارزة فيها أكانت أثرية أم دينية أم رياضية.

ماذا عن الايرادات التي حققها القطاع السياحي هذا الموسم؟ يوضح الاشقر أنه لا يمكن الحصول على أرقام الإيرادات الدقيقة والصحيحة إلا من خلال المؤسسات الرسمية، إلا انه أشار الى تقديرات البنك الدولي بأنها تراوح ما بين 3 و4 مليارات دولار، لافتا الى أن البعض يتحدث عن أرقام خيالية، إنما في الواقع لا يمكن الربط بين التحويلات الخارجية من المغتربين إلى عائلاتهم مع إيرادات القطاع السياحي.

أما عن نسبة الإشغال في الفنادق، فيشير الاشقر الى أنها تتفاوت بين منطقة وأخرى وتصل نسبتها الى ما بين 50% و85%، في حين وصلت نسبة الإشغال في بيوت الضيافة إلى 100% لموسم 2023. السبب في هذا التفاوت بنسب الإشغال بين بيوت الضيافة والفنادق، يعزوه الأشقر الى “سهولة إشغال منزل الضيافة، اضافة الى اننا نعيش اليوم في زمن الموضة، إذ أصبحت الفنادق التقليدية وجهة سياحية قديمة وغير مقصودة بكثافة”، ولم ينسَ الاشارة الى عوامل عدة منها عامل التسويق والمنطقة وغيرها من العوامل المؤثرة في جذب السياح.

ويقارن بين تكاليف ليلة في بيت الضيافة والليلة الواحدة في الفندق، فيشير الى ان الليلة الواحدة في بيوت الضيافة تصل الى نحو 400 دولار، في حين تراوح تكاليف غرفة الفندق ما بين 50 و500 دولار، بحسب تصنيف الفندق وما يقدمه من خدمات للزبائن.

35% من الوافدين سياح

الحركة السياحية في فترة الصيف كانت نشيطة جدا، والمفارقة الايجابية أن الاحداث الامنية المتنقلة التي حصلت خلال هذه الفترة لم تؤثر على الموسم السياحي، “زمطنا على شعرة”، وفق ما يقول رئيس نقابة أصحاب مكاتب السفر والسياحة جان عبود الذي يؤكد أن عدد الوافدين في حزيران وتموز وآب وأيلول قد يصل الى مليوني وافد بينهم 35% سياح.

عدد السياح وصل في العام 2022 الى نحو مليون و200 ألف سائح، وهذا العدد ارتفع خلال الصيف بنسبة تصل الى أكثر من 25%، وتاليا سترتفع الايرادات بالنسبة نفسها، لتصل الى ما بين الـ6.5 مليارات و7 مليارات دولار مقارنة مع العام الماضي حيث بلغت نحو 6 مليارات دولار.

وفي ظل الغياب المدوّي للسائح الخليجي عن الساحة اللبنانية، لاحظ عبود زيادة نسبة السياح الاوروبيين وخصوصا من اسبانيا، وقد ساهم بذلك عدد الرحلات التي تسيّرها “الميدل ايست” الى تلك البلاد. عدا عن ذلك، يشير الى اختيار لبنان كوجهة سياحية من بعض الدول التي لم نعهدها من قبل ككرواتيا وسلوفينيا والبرازيل وغيرها من الدول كنيجيريا مثلا. وعلى رغم ان امكانات مواطني هذه الدول محدودة، بيد أن وجودهم يضفي حركة سياحية متنوعة على البلاد، وفق ما يقول عبود.

الشقق المفروشة ترفع الصوت؟

لطالما كان قطاع الشقق المفروشة الأوفر حظا سياحيا نظرا الى الفئات التي يستقطبها وخصوصا العائلات. ولكن القطاع بدأ بالتراجع على خلفية التكاليف التي يتكبدها خصوصا فواتير الكهرباء وتحديدا رسم العدادات الذي اصبح يناهز ملايين الليرات، والمازوت، واسعار صهاريج المياه، حتى وصل الامر بأهل القطاع الى التفكير بعصيان مدني لرفض دفع الرسوم والضرائب التي بدأت تنهك القطاع من دون ان يكون في المقابل اي مردود، وفق ما كشف رئيس نقابة اصحاب الشقق المفروشة زياد اللبان لـ”النهار”. بالنسبة الى نسب الإشغال في موسم الصيف، يشير اللبان الى ان النسبة في بيروت لم تتجاوز الـ 50%، فيما كانت النسبة خجولة جدا خارجها. اما جنسية النزلاء التي كانت متنوعة في السابق، فإنها اقتصرت هذا الموسم على اللبنانيين والعراقيين ونسبة قليلة لا تتعدى الـ 3% اجانب.

واردات القطاع السياحي ستساعد على الصمود مرحليا، ريثما تعود الدولة بكاملها من جولتها السياحية في غابات اللامبالاة، لتتحمل مسؤوليتها الكاملة في إقرار القوانين والتشريعات التي تتيح لهذا الوطن، الذي يثبت عند كل استحقاق إقتصادي أو غيره أنه قادر على صناعة معجزاته بمفرده، واعادة تجربة النهوض والإنقاذ مجددا، وشرطه الوحيد: “دولة يا ناس”.

Leave A Reply

Your email address will not be published.