“آيباك” لبنان: ثلاثية الجيش والـ”NGOs” والبنك الدوليّ

نشر معهد الشرق الأوسط في واشنطن، قبل أيام، نتائج مؤتمر سياسات لبنان الأوّل الذي انعقد على مدى أسبوعين نهاية الشهر الماضي وبداية الشهر الجاري، ونظّمه المعهد بالاشتراك مع “فريق العمل الأميركي من أجل لبنان” ومنظمة “لايف” للمصرفيين اللبنانيين الدوليين. الكتيّب المعنوَن “الآن أو أبداً” يلفت إلى “أننا نعيش في وقت حساس ستؤثر فيه القرارات المتخذة في الأسابيع والأشهر المقبلة من قبل أصحاب القرار في لبنان والمجتمع الدولي على مسار البلاد لسنوات عديدة”. ويسعى ناشروه إلى أن توجّه توصيات المؤتمر السياسات الأميركية تجاه لبنان بما يناسب المصالح الأميركية وأجندة اللوبيات المنظّمة للمؤتمر.

هذا المشهد ليس غريباً على واشنطن إذ يكاد لا يمر يوم لا يُنظّم في العاصمة الأميركية مؤتمر لسياسات ما، قد تكون داخلية كمؤتمرات لوبيات السلاح، أو خارجية وأبرزها مؤتمر “آيباك” لدعم إسرائيل… أو حتى فضائية. طبعاً، لا يمكن مقارنة “مؤتمر سياسات لبنان” المتواضع جداً بمؤتمر “آيباك” الأقرب إلى مهرجان يحجّ إليه المرتهنون لإسرائيل من ساسة حزبَي الولايات المتحدة ورؤساء من حول العالم. سقف “مؤتمر سياسات لبنان” أوطى من سقف “آيباك” بكثير. إذ أن أقصى ما يطمح إليه المنظمون هو ألا تتخلّى الإدارة الأميركية الحالية عن لبنان بالكامل، وهو شعور عبّر عنه عدد من المتحدثين في جلسات المؤتمر التي جرت عبر تطبيق “زوم”.

تناولت الجلسات التسع للمؤتمر النواحي المختلفة لما يحصل في لبنان في الأمن والسياسة والاقتصاد، وشارك فيها – إلى جانب خبراء – دبلوماسيون وسياسيون وعسكريون ومفكرو مراكز الدراسات ومندوبو المؤسسات الاستعمارية الأميركية والدولية. وتغيب الأوهام عن معظم المشاركين في المؤتمر. إذ يدرك الجميع أن لا تغيير كبيراً في الأفق، وأن السياسات المقترحة تحتاج إلى وقت طويل لتتحقّق.

هذا في الاستنتاجات والتوصيات، أما في تفاصيل المحاضرات والنقاشات، فتظهر مخاوف وشكوك غير تلك المعبّر عنها في الكتيّب المنقّح الصادر عن المؤتمر. فعلى سبيل المثال، أقرّ السيناتور تيم كاين أن أولوية الإدارة الأميركية هي “المنافسة وأحياناً المواجهة” الدائرة في منطقة المحيط الهندي والهادئ، وأن تركيز الطاقات بطبيعة الحال يجب أن يكون هناك، وهذا يتطلّب بعض المقايضات. لكنه يعود ويطمئن الجميع بأنه “شخصياً” لن يترك لبنان، وسيتأكد من أن يبقى الفريق الدبلوماسي الرديف الذي سيتولّى التفاوض في المنطقة مهتماً بلبنان. أما ديفيد هيل الذي غادر منصبه في وزارة الخارجية الشهر الماضي، فهو أيضاً “يطمئن” اللبنانيين بأنه لم يكن الوحيد في الطابق السابع من مبنى الخارجية المهتم بلبنان، وقال إن وزير الخارجية السابق مايك بومبيو كان أيضاً مهتماً بلبنان لأن المنطقة في ولاية كنساس التي كان يمثّلها في مجلس النواب الأميركي تؤوي الكثير من المرجعيونيين الروم الأرثوذكس. وأضاف أن هناك فريقاً في البنتاغون وفريقاً في القيادة العسكرية للمنطقة الوسطى وفريقاً في القوات الخاصة مهتمون بلبنان، وأنه لا يزال هناك الكثير من المواهب المهتمّة بلبنان في واشنطن. لكن يبدو أن موهبة هيل الدبلوماسية خانته. إذ عبّر بصريح العبارة أن لدى الولايات المتحدة الكثير من أدوات “الجزرة أو العصا” لإبعاد حلفاء حزب الله عنه، فأيّ دبلوماسية هذه التي لا تتوعّد وتهدّد فحسب بل أيضاً تشبّه من تهددهم بالحمير؟

طبعاً، المحاور إدوارد غابريال من “فريق العمل الأميركي من أجل لبنان” وسفير بيل كلينتون إلى المغرب، كرّر عبارة “الجزرة أو العصا” شاكياً عدم جدواها في الوصول إلى نتائج سريعة ومشجّعة في حين يشعر اللبنانيون أنهم رهائن، فقام هيل بطمأنته مجدداً، ووجه رسالة إلى الإدارة الأميركية بألا تتجاهل الملف اللبناني. التهديد والوعيد كرّرهما في جلسة أخرى النائب ابن النائب في الكونغرس الأميركي دارن لحود الذي قال إن العقوبات وحدها لا تكفي لكفّ يد حزب الله، وأنه سيدعو إدارة بايدن إلى الاستمرار بالاهتمام بلبنان وعدم السماح بأن يصبح دولة فاشلة. ودعا في الوقت نفسه إلى تجاوز الدولة ودعم المنظمات غير الحكومية والجامعتين الخاصتين، الأميركية واللبنانية الأميركية.

الخوف من تراجع الاهتمام الأميركي بلبنان ظهر أيضاً في جلسة “مستقبل التعاون الدفاعي والأمني بين الولايات المتحدة الأميركية ولبنان». فقد ناشد مؤسس برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط بلال صعب المسؤولين الأميركيين عدم فتح المجال أمام روسيا والصين للدخول إلى لبنان. إذ أن ذلك «لن يحصل إلا إذا تخاذل الأميركيون الذين يهيمنون على العلاقة مع المؤسسة العسكرية اللبنانية وسمحوا بتسلّل الآخرين”.

الطمأنة من المؤسسة الأميركية أتت هذه المرة على لسان نائب مدير الاستراتيجيات والخطط والسياسات في القيادة العسكرية للمنطقة الوسطى العميد ديوك بيراك. لكنه بدا أكثر وكأنه بائع خردة. فقال إن الصين قد تقدّم حلولاً مادية مغرية وسريعة في مقابل البطء الأميركي في تقديم الحلول المادية إلى شركاء الولايات المتحدة، الأمر الذي عزاه إلى “طريقة عمل” المؤسسات الأميركية. لكن الصين، وفقاً لبيراك، لا تقدّم لشركائها خدمة ما بعد البيع ولا توفّر حلولها «الشراكة القيّمة جداً مع الولايات المتحدة. ولذلك يتحمّل شركاؤنا متطلباتنا…لأنهم يعرفون أنهم يستثمرون في هذه الشراكة”.

رسالة البنتاغون ممثلةً بنائبة مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط دانا سترول كانت نفسها، وهي أن الولايات المتحدة تعرض على الجيش اللبناني (أو الـ”لاف” كما يحلو للأميركيين والبريطانيين تسميته) شراكة وتدريبات وصفوفاً في الكليات الحربية وليس فقط المعدات. لكنها أضافت تهديداً للشركاء بأن الانفتاح العسكري على الصين قد يمثّل تهديداً استراتيجياً لن تتقبّله الولايات المتّحدة، مكرّرة خطاب الإدارة الأميركية بأن عينها على الشرق ولا ترى سوى الصين في أولوياتها.

بدا واضحاً في توصيات المؤتمر التي ستُرفع إلى الكونغرس الأميركي التسليم بأن إدارة بايدن لا تنوي التصعيد في المنطقة، وأن أقصى ما ستفعله هو الاستمرار بدعم الجيش اللبناني كونه “العماد الأخير المتبقّي” للدولة اللبنانية، وركوب موجة المنظمات غير الحكومية في الانتخابات النيابية المقبلة لقلب موازين القوى في البرلمان… وقد تترشّح دوروثي شيا شخصياً مقابل جبران باسيل إذا لزم الأمر.

أمّا عن الأزمة الاقتصادية والانهيار القائم، فماذا كانت عصارة أفكار مراكز الأبحاث؟ من غير المفاجئ أن يكون الحل الوحيد المقترح من قبل مؤتمر شارك في تنظيمه لوبي مصرفيين دوليين، هو اللجوء إلى وصفة البنك الدولي المقدّسة لمنع سيناريو “الدولة الفاشلة”. عدا ذلك، كانت الجلسات المخصّصة لموضوع الاقتصاد، بمعظمها، توصيفاً للوضع الحالي وعرضاً للأرقام التي تثبت أن الوضع مأزوم.

وفي سياق إحياء الموتى أيضاً، خُصّصت إحدى الجلسات لمناقشة المبادرة الفرنسية، وفي هذه الجلسة تحدّث الدبلوماسي الفرنسي بيار دوكين عن أهمية مؤتمر “سيدر” وأهمية الـ11 مليار دولار الموعودة. كما أظهر تطابقاً مع الإدارة الأميركية في ما يخص دعم الجيش اللبناني والمنظمات غير الحكومية وإجراء الانتخابات في وقتها وفرض العقوبات على من يزعجهم. اللافت في هذه الجلسة كان محاولة ترويج المحاور شربل أبو شرف من لوبي المصرفيين، لرفع الدعم عن استيراد المنتجات الأساسية ومحاولة إلقاء اللوم في إفلاس المنظومة المصرفية على التهريب، لكن دوكين لم ينجرّ إلى الدفاع عن النظام المصرفي اللبناني بل عاد وكرّر بأن وصفة الخلاص هي، بطبيعة الحال، عند البنك الدولي.

المصدر:الأخبار

جمال غصن